إلا أن عم أحمد ظل مصمما على روايته فقال المشرف إذن فأنا مضطر لتحويلك للتحقيق ليحقق معك من قبل الشركة فأخذ عم احمد في البكاء قائلا والله ما اقول إلا الحقيقة ، وهنا تحدث أحد العمال قائلا للمشرف يا سيدي إني أصدق عم أحمد وهو يقول الحقيقة أنا أسكن بجوار هذه المنطقة وكلنا نعرف أن تلك المنطقة مسكونة فلقد وجد بها مقبرة جماعية تعود من أيام الحرب ، فضحك المشرف إذن فأنت شريكه في السرقة إذا أردت أحلتك للتحقيق معه فصمت العامل وتراجع في هدوء.
اتصلت كعادتي بأصدقائي العرب، أخبروني جميعًا أنهم قد غادروا، بعضهم وصل إلى بولندا، وآخرون إلى ألمانيا، وبعضهم إلى مدينة لفيف في الغرب الأوكراني. إذًا جاءت تلك اللحظة التي أجلتها ما استطعت على أمل وقف إطلاق النار، وعودة السلام إلى هذا البلد الطيب. بات الأمر واضحًا؛ علينا الرحيل عن كييف إلى مكانٍ أكثر أمانًا. ابني وزوجته نصحانا بالذهاب إلى الغرب حيث عائلة زوجته، قالت لودميلا: "لقد اتصلت بأسرتي ووالدي يدعوكم للذهاب إلى كوفِل، حيث الغرب الأوكراني ما زال هادئًا.. ما زالت الحرب بعيدة عنه، وإذا حدثت تطورات في تلك المناطق فسنكون قريبين من الحدود ونستطيع المغادرة إلى بولندا متى شئنا". حسنًا إذًا، تحركنا مساء السادس من مارس/آذار الجاري، وأخذنا ما هو ضروري من وثائق وملابس، وتركنا أشياء عزيزة علينا. أغلقنا محابس الغاز والكهرباء والماء وأغلقنا الأبواب. ودّعنا المنزل وتساءلنا قبل أن نمضي: هل سنراه ثانيةً؟
في الطريق شاهدنا ما لم تسبق لنا رؤيته، على شاكلة انتشار عناصر قوات الحماية المدنية بلباسهم العسكري والشارات الزرقاء على أيديهم. أوقفنا عناصر أول الحواجز وطلبوا بطاقات التعريف الخاصة بنا. أخرجناها فنظر الضابط إليها وإلينا، وأعادها إلينا، صاحت لودميلا بعزة قومية: "المجد لأوكرانيا"، فردد خلفها جنود الحاجز: "المجد لأوكرانيا.. المجد للأبطال المدافعين عنها".
اتجهنا إلى محطة القطارات، حيث الثلج ينهمر كقطن يتطاير في الهواء والطقس بارد. كانت أمام المحطة عشرات العائلات التي تنتظر موعد رحلاتها إلى الغرب. دخلنا المحطة التي كانت معتمة، لولا أضواء بعض الهواتف حيث يبحث البعض عن طريق إلى حيث يريد وسط زحام الناس المتراصين. بصعوبة مررنا إلى البوابة حيث ينتظرنا القطار. أخبرتنا إحدى المشرفات بأن قطار كوفِل سوف يتأخر. ذهبنا إلى صالات الانتظار حيث تكوم الناس وافترشوا الأرض. سألت شابة صديقتها: لماذا كل شيء معتم هنا. أجابتها: كي لا يقصفنا الروس من الجو إذا رأوا ضوءاً. سألتها: كيف تعرفين ذلك؟ قرأتها في روايات أجدادنا عن الحرب الوطنية العظمى (الحرب العالمية الثانية)، هذا ما كان يفعله العدو الألماني بنا. أجابتها بثقة. جاء موعد انطلاق قطارنا. وصلنا إلى عربتنا بصعوبة، وقدمنا تذاكرنا وجوازات السفر. تعاملت معنا المضيفة في العربة بودٍ عالٍ، كنت قد خشيت العكس نظرًا للتقارير والحكايات التي نقلها البعض عن تصرفات عنصرية تجاه الأجانب. كان القطار كما المحطة مُعتمًا بلا إضاءة، لذلك اعتمدنا على كشافات الهواتف للوصول إلى حجرتنا. حاول ابني إضاءة الحجرة لكن المضيفة منعته صارخةً: "لا تفعل، سيدمر الروس القطار إن رأوا ضوءًا".