يقول الله عز وجل: { فاستقم كما أمرت وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} [*]. فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ-آيات قرآنية. قضية الاستمرار في الامتثال لأمر الله (تعالى) في المنشط والمكره من القضايا الجوهرية في التصور الإسلامي ، ومن القضايا الجوهرية كذلك في بنية التشريع وأدبياته ، وليس أدل على ذلك من وصية الله (تعالى) لنبيه -صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية وفي غيرها بـ (الاستقامة) ، التي هي: (المداومة على فعل ما ينبغي فعله وترك ما ينبغي تركه). وقد قام (عليه الصلاة والسلام) بإسداء النصح بلزومها لمن سأله عن قول فصل يصلح به جماع أمره ، حيث جاء في الصحيح: أن سفيان بن عبد الله (رضي الله عنه) قال: قلت: (يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك ، قال: قل: آمنت بالله ، ثم استقم) [1]. ولنا مع هذه الآيات المباركة الوقفات التالية:
إن في قوله (جل وعلا) { وَلا تَطْغَوْا} ، وقوله: { وَلا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} إشارة واضحة إلى ما يعترض سبيل الاستقامة من ملابسات السرّاء والضرّاء ، وقد أخبرنا ربنا (جل وعلا) أن من طبيعة البسط والتمكن استدعاءَ البغي والطغيان ، حيث قال (سبحانه): { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} [الشورى: 27[.
- فاستقم كما امرت ولا تتبع
- فاستقم كما أمرت ومن تاب
- فاستقم كما أمرت ومن تاب معك
- فأستقم كما أمرت و من تاب معك
- فاستقم كما امرت ومن تاب معك ولا تطغوا
فاستقم كما امرت ولا تتبع
ولما أمرنا الله -سبحانه- أن نسأله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، كان ذلك مما يبين أن العبد يُخاف عليه أن ينحرف إلى هذين الطريقين؛ إما الإفراط والتجاوز للحدود، وإما التفريط والتضييع للدين. تفسير: (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير). 2- ومن الأساليب في الدعوة إلى الاستقامة الأمر الصريح للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولمن اتبع هديه من المؤمنين بأن يستقيموا كما أمرهم الله تعالى، وكما يريد لهم، دون طغيان أو زيادة أو تشديد، فقال تعالى: ( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [هود:112]. فالله -سبحانه- يأمر بالاستقامة التي هي الاعتدال، والمضي على النهج دون انحراف، ويعقب بالنهي عن الطغيان مما يفيد أن الله -سبحانه- يريد الاستقامة كما أمر بلا غلو ولا مبالغة تحيل هذا الدين من يسر إلى عسر، ومن رحمة إلى عنت ومشقة، وهذه الآية هي ما شاب له رأس المصطفى -صلى الله عليه وسلم-. 3- ومن أساليب الدعوة إلى لزوم الصراط المستقيم ما ورد من التحذير من تعدي الحدود، والأمر بلزومها، ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة:229].
فاستقم كما أمرت ومن تاب
يا أهلَ الإيمانِ: كُلنا يدعو في صلاتِه في كلِ يومٍ وليلةٍ: ( اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ)، فما هو أثرُ هذا الدعاءِ على قلوبنِا وعلى سلوكِنا؟! بل دعوني أكن معكم أكثرَ صراحةٍ: ما هو السببُ في عدمِ استقامتِنا على الدينِ؟! هل هو ضَعفٌ أمامَ الشهواتِ؟! هل هو الشيطانُ وحبالُه والخُطُواتُ؟! هل هي الشُبُهاتُ؟! هل هو الخوفُ من استهزاءِ الناسِ والغَمَزاتِ؟! هل هو مُصَادمةٌ للأعرافِ والعاداتِ؟! هل هي الدنيا والمناصبُ والجاه؟! أم هو عدمُ يقينٍ بربِ الأرضِ والسماواتِ؟! فاستقم كما امرت ولا تتبع. ( أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). ارفعْ رأسكَ -يا عبدَ اللهِ- فإنكَ مسلمٌ، واعتزَ بدينِك فإنكَ مؤمنٌ، واعلم أن ( لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ). أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفورُ الرحيمُ. الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي وفقَ من شاءَ برحمِته إلى طاعتِه، ويسرَ الهدايةَ لمن أحبَ من خلقِه، والصلاةُ والسلامُ على من جعلَه ربُه هادياً مهدياً، بشيراً ونذيراً، وعلى آلِه وصحبِه الطيبينَ الطاهرينَ، ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
فاستقم كما أمرت ومن تاب معك
ثم إن الاستقامة ليست رفاهية يمكن الاستغناء عنها، إنها أمر قرآني يقتضي الوجوب؛ ففي القرآن: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ﴾ [الأنعام: 153]، والاتِّباع يقتضي الدوام والاستمرارية. وللاستقامة فضائل ونتائج، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبَرَنا عن عجْزِنا بإحصائها في قوله صلى الله عليه وسلم: ((استقيموا ولن تحصوا))؛ أي: لا تعددوا فضائل ونتائج الاستقامة؛ لأنها كثيرة بما تَعجزون عن إحصائه. والاستقامة خير وسيلة للدعوة إلى الله عن طريق تمثيل القدوة الصالحة للمَدعوِّين، وفي هذا ورد حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((استقيموا يُستقَم بكم))، فليس أفضل للداعية الذي يبغي النجاح في دعوته طريقًا أفضل وأخصر للوصول من الاستقامة، فالاستقامة تستجلب رضا الله، ومِن ثمَّ القبول في الأرض واقتناع الناس بفكرته، والاستقامة هي ترجمة سلوكية يراها الناس فيتأثَّرون بالشخص دون لباقة كلام أو حسن قول. فاستقم كما أمرت ومن تاب معك. وجماع هذا الأمر كله وصية النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه أحد الصحابة يطلب وصيّته فقال صلى الله عليه وسلم له: ((قل آمنت بالله، ثم استقم))، قل بلسانك وقلبك وكل جوارحك أنك مؤمن، ثم استقم بأداء الفرائض والسعي للنوافل وتجديد التوبة عن كل معصية، واتقاء الشبهات... فالاستقامة هي الترجمة العملية المستدامة لمعنى الايمان.
فأستقم كما أمرت و من تاب معك
ومن هنا نفهم أنَّ الإسلام عقيدة وسلوك، إن صحت العقيدة صح السلوك، وإنْ فسدت العقيدة فسد السلوك، وإن اختلت العقيدة اختل السلوك، فأي عقيدة مغلوطة يعتقدها المرء فلابد من أن تُظهِر على سلوكه انحرافًا.
فاستقم كما امرت ومن تاب معك ولا تطغوا
الحمد لله. الكلام على قوله عز وجل : ( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ) - الإسلام سؤال وجواب. يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ
تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) هود:/ 112. قال ابن جرير رحمه الله:
" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فاستقم أنت ، يا محمد ، على أمر
ربك ، والدين الذي ابتعثك به ، والدعاء إليه ، كما أمرك ربك ، ومن رجع معك إلى طاعة
الله والعمل بما أمره به ربه من بعد كفره ، ولا تعدوا أمره إلى ما نهاكم عنه ، إن
ربكم بما تعملون من الأعمال كلِّها - طاعتها ومعصيتها - ذو علم بها ، لا يخفى عليه
منها شيء ، وهو لجميعها مبصرٌ ، فاتقوا الله ، أيها الناس ، أن يطَّلع عليكم ربكم
وأنتم عاملون بخلاف أمره ، فإنه ذو علم بما تعلمون ، وهو لكم بالمرصاد " انتهى
باختصار يسير من "تفسير الطبري" (15 /499). وقال ابن كثير رحمه الله:
" يأمر تعالى رسوله وعباده المؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة ، وذلك من أكبر
العون على النصر على الأعداء ومخالفة الأضداد ونهى عن الطغيان: وهو البغي ، فإنه
مَصرَعة حتى ولو كان على مشرك ، وأعلم تعالى أنه بصير بأعمال العباد ، لا يغفل عن
شيء ، ولا يخفى عليه شيء " انتهى من "تفسير ابن كثير" (4 /354).
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " مُرْهُ فلْيَتَكلَّمْ، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه " أخرجه البخاري. قال الحافظ: وفيه أن كل شيء يتأذى به الإنسان مما لم يرد بمشروعيته كتاب أو سنة كالمشي حافياً، والجلوس في الشمس، ليس هو من طاعة الله، فلا ينعقد به النذر. 3/ عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل وعندها امرأة، قال: " مَن هذه؟ "، قالت: فلانة، تذكر من صلاتها، قال: " مَهْ! عليكم بما تطيقون، فوالله لا يملُّ الله حتى تملُّوا! "، وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه. أخرجه البخاري ومسلم. فأستقم كما أمرت و من تاب معك. قال ابن حجر: عليكم بما تطيقون: أي اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه، فمنطوقه يقتضي الأمر بالاقتصار على ما يُطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلف ما لا يطاق. ولقد وردت أحاديث تبين مآل مَن غلا، وأنه صائر إلى الهلاك، بل يرد ذلك مكرراً ثلاث مرات في حديث واحد، مما يفيد عظم الأمر وخطره، فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " هلك المتنطعون " قالها ثلاثاً. أخرجه مسلم. قال النووي: هلك المتنطعون، أي المتعمقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم.