وفي غزل شوقي تلميح إلى ذلك". ويقول عبدالمنعم شميس في كتابه " شخصيات في حياة شوقي "... :" وعَشِق أمّ كلثوم وكتب لها قصيدة التحدي التي غنتها بعد وفاته بسنوات ، وهي التي يقول في مطلعها: سلوا كؤوسَ الطلا هل لامستْ فاها *** واستخبروا الراحَ هل مسّتْ ثناياها وكان يريد منها أن تشرب معه كأساً فأبت وغضب وغضبت ، ثم انتهت القصة حتى مات". نلاحظ هنا اختلاف الروايتين. قراءة في قصيدة ( سلو كؤوس الطِلا ) لأمير الشعراء. في الاولى يقدر شوقي أمَّ كلثوم لانها لا تشرب الخمر وفي الثانية يغضب لانها لا تشرب معه الخمر!. يبدأ شوقي قصيدته الفارهة الايقاع، والرحيبة القافية: سلوا كؤوسَ الطلا هل لامستْ فاها *** واستخبروا الراحَ هل مسّتْ ثناياها لماذا أبتدأ الشاعر بـ " سلوا " بالجمع؟ لا بدَّ أنه ذُهل وانبهت واستغلق عليه سّرها، فاستنجد. أو هل كان يدفع عنه لومة لائم، فعزا جنونه بها إلى ما أصابه من ثمل؟ كانت تغني، فلماذا قال كؤوس الطلا؟ ربما لأن حاستين هما حاسة الذوق وحاسة السمع انصهرتا في حاسة واحدة، وكأنَّ لصوتها فعل الخمر. لتكثيف الحيرة اكثر، قال الشاعر:" كؤوس الطلا " أي انواعاً مختلفة من الخمور. للجمع في هذه القصيدة: مثل: سلوا واستخبروا، وكذلك كؤوس وثنايها أهميّتان فنيّتان.
- قراءة في قصيدة ( سلو كؤوس الطِلا ) لأمير الشعراء
قراءة في قصيدة ( سلو كؤوس الطِلا ) لأمير الشعراء
يتراوح غناؤها بين البكاء والهتاف وهما أقصى مأساة إذا اجتمعا ولاسيما في الليل. وكنوع من المواساة لحمامة الايك يختتم شوقي قصيدته:
ياجارةَ الأيك أيّامُ الهوى ذهبتْ *** كالحلم آهاً لأيّام الهوى آها
حقق شوقي في هذا البيت عدة أغراض فنيَّة ، ففي " ياجارة الايك " أصبحت الحمامة أو ما ترمز إليه بعيدة من حيث سكنها، لا سيّما وهو يسمعها ولا يراها. فإذا صحَّ هذا الافتراض يكون حرف النداء " يا " مؤكداً
لذلك ، بالاضافة فإن الذكريات التي كانت في يوم ما واقعية معاشة أصبحت
كالحلم ، وحين يقول الشاعر " آهاً لأيام الهوى آها " يكون قد انتقلت اليه عدوى الغناء، فأصبح هو المغنّي الملذوع. هكذا تصبح القصيدة جوقة من الأصوات: ناي داود وحنجرة
شاعر، وحفيف نسيم في غصون وحفيفه في ثياب فتاة، وهديل حمامة. ربما هذا ما
يُعنى بالهارمونية في العمل الفني. يبدو أنّ مأساة أحمد شوقي اكبر من مأساة الشاعر الإنكليزي جون ملتون، في فردوسه المفقود. مأساة ملتون سماوية ، أمّا شوقي فكان يعاني من انفراط
الأيام، انفراط الزمن، من بين يديه، فهو في قلق دنيوي دائم، والأنكى لا
مفرّ منه.
اقترب منها أكثر حينما قال: تحت الوشي. واقترب أكثر حينما قال: عطفاها، وهي كلمة حسية، ازدادت حسّيتها بتثنيتها: عطفاها. على هذا حينما ينتقل الشاعر بعد ذلك مباشرة من عالمٍ حسّي إلى عالم روحاني يكون قد نشل نفسه إلى قمّة فنّية سامقة. في البيت الخامس: حديثها السحر إلا ّأنه نغمٌ *** جرتْ على فم داودٍ فغنّاها قد نجد صعوبة في ايجاد علاقة ظاهرية بين هذا البيت، والبيت الذي سبقه ، ولكن عند التمعّن ندرك تداعيات العقل الباطن ، فمن ناحية أصبح حفيف الاغصان سحراً في فمها، وجلب السحر قدسية ما، مثل قدسية مزمار داود. بهذا تكتمل صورة الثمل الروحي. في البيت كما نوّهنا، رنّة دينَّية صافية، فمن ناحية قد يشير تعبير: " حديثها السحر " الى قول ( إن من البيان لسحرا) كما يشير فم داود الى مزماره. ومن هنا يكون الانتقال من فم داود الى " حمامة الايك " انتقالاً منطقياً، ولاسيّما ان الانسان والشجر والطير تتداخل فيما بينها تداخل أغصان اشجار متجاورة: حمامةُ الايكِ مَنْ بالشجو طارحها *** ومَنْ وراء الدجى بالشوق ناجاها يكشف لنا شوقي في هذا البيت خصلتين: ارتباط غناء الحمام بالليل، وثمة صوت موحٍ قادم من عمق ينده الذكريات. التفتت حمامة الايك، أصغت ولكن عينيها لم تتبينا مصدر الصوت، لأن حاسة البصر معطّلة بفعل الليل.