القول في تأويل قوله تعالى: ( ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين ( 15)) [ ص: 112]
يقول - تعالى ذكره -: ووصينا ابن آدم بوالديه الحسن في صحبته إياهما أيام حياتهما ، والبر بهما في حياتهما وبعد مماتهما. واختلفت القراء في قراءة قوله ( حسنا) فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة " حسنا" بضم الحاء على التأويل الذي وصف. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة ( إحسانا) بالألف ، بمعنى: ووصيناه بالإحسان إليهما ، وبأي ذلك قرأ القارئ فمصيب ؛ لتقارب معاني ذلك ، واستفاضة القراءة بكل واحدة منهما في القراء. وقوله ( حملته أمه كرها ووضعته كرها) يقول - تعالى ذكره -: ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا برا بهما ، لما كان منهما إليه حملا ووليدا وناشئا ، ثم وصف - جل ثناؤه - ما لديه من نعمة أمه ، وما لاقت منه في حال حمله ووضعه ، ونبهه على الواجب لها عليه من البر ، واستحقاقها عليه من الكرامة وجميل الصحبة ، فقال: ( حملته أمه) يعني في بطنها كرها ، يعني مشقة ، ( ووضعته كرها) يقول: وولدته كرها يعني مشقة.
إسلام ويب - في ظلال القرآن - تفسير سورة الأحقاف - تفسير قوله تعالى ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها- الجزء رقم6
ويبدأ بالوصية بالوالدين. وكثيرا ما ترد هذه الوصية لاحقة للكلام عن العقيدة في الله أو مصاحبة لهذا الحديث. ذلك أن وشيجة الأبوة والبنوة هي أول وشيجة بعد وشيجة الإيمان في القوة والأهمية، وأولاها بالرعاية والتشريف. وفي هذا الاقتران دلالتان: أولاهما هي هذه. والثانية أن آصرة الإيمان هي الأولى وهي المقدمة، ثم تليها آصرة الدم في أوثق صورها. وفي هذا الشوط نموذجان من الفطرة: في النموذج الأول تلتقي آصرة الإيمان وآصرة الوالدين في طريقهما المستقيم المهتدي الواصل إلى الله. وفي الثاني تفترق آصرة النسب عن آصرة الإيمان، فلا تلتقيان. والنموذج الأول مصيره الجنة ونصيبه البشرى. والنموذج الثاني مصيره النار ونصيبه استحقاق العذاب. وبهذه المناسبة يعرض صورة العذاب في مشهد من مشاهد القيامة، يصور عاقبة الفسوق والاستكبار. ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا..
فهي وصية لجنس الإنسان كله، قائمة على أساس إنسانيته، بدون حاجة إلى أية صفة أخرى وراء كونه إنسانا. وهي وصية بالإحسان مطلقة من كل شرط ومن كل قيد. فصفة الوالدية تقتضي هذا الإحسان بذاتها، بدون حاجة إلى أية صفة أخرى كذلك. وهي وصية صادرة من خالق الإنسان، وربما كانت خاصة بهذا الجنس أيضا.
﴿ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها﴾ أحمد العجمي Ahmad Alajmy - Youtube
ﵟ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ۖ وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۚ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﰇ ﵞ
سورة العنكبوت
ووصينا الإنسان بوالديه أن يبرّهما ويحسن إليهما، وإن جاهدك والداك - أيها الإنسان - لتشرك بي ما ليس لك بإشراكه علم - كما وقع لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من أمه - فلا تطعهما في ذلك لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إليّ وحدي رجوعكم يوم القيامة، فأخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا، وأجازيكم عليه.
بِر الوالدين في القرآن الكريم
﴿ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها﴾ أحمد العجمي Ahmad Alajmy - YouTube
#سورة_الأحقاف (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ ) فجر الخميس 02/ 05/ 1442هـ - Youtube
ثم الرضاع والرعاية. حيث تعطي الأم عصارة لحمها وعظمها في اللبن، وعصارة قلبها وأعصابها في الرعاية. وهي مع هذا وذلك فرحة سعيدة رحيمة ودود. لا تمل أبدا ولا تكره تعب هذا الوليد. وأكبر ما تتطلع إليه من جزاء أن تراه يسلم وينمو. فهذا هو جزاؤها الحبيب الوحيد! فأنى يبلغ الإنسان في جزاء هذه التضحية، مهما يفعل. وهو لا يفعل إلا القليل الزهيد؟
وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد جاءه رجل كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل أديت حقها؟ فأجابه: "لا، ولا بزفرة واحدة". ويخلص من هذه الوقفة أمام الوصية بالوالدين، واستجاشة الضمائر بصورة التضحية النبيلة ممثلة في الأم، إلى مرحلة النضج والرشد، مع استقامة الفطرة، واهتداء القلب: حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال: رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي، وأن أعمل صالحا ترضاه، وأصلح لي في ذريتي، إني تبت إليك، وإني من المسلمين..
وبلوغ الأشد يتراوح بين الثلاثين والأربعين. والأربعون هي غاية النضج والرشد، وفيها تكتمل جميع القوى والطاقات، ويتهيأ الإنسان للتدبر والتفكر في اكتمال وهدوء. وفي هذه السن تتجه الفطرة المستقيمة السليمة إلى ما وراء الحياة وما بعد الحياة.
ووضعته كرها.. لكأنها آهة مجهد مكروب ينوء بعبء ويتنفس بجهد، ويلهث بالأنفاس! إنها صورة الحمل وبخاصة في أواخر أيامه، وصورة الوضع وطلقه وآلامه! ويتقدم علم الأجنة فإذا به يكشف لنا في عملية الحمل عن جسامة التضحية ونبلها في صورة حسية مؤثرة..
إن البويضة بمجرد تلقيحها بالخلية المنوية تسعى للالتصاق بجدار الرحم. وهي مزودة بخاصية أكالة. تمزق جدار الرحم الذي تلتصق به وتأكله; فيتوارد دم الأم إلى موضعها، حيث تسبح هذه البويضة الملقحة دائما في بركة من دم الأم الغني بكل ما في جسمها من خلاصات; وتمتصه لتحيا به وتنمو. وهي دائمة الأكلان لجدار الرحم. دائمة الامتصاص لمادة الحياة. والأم المسكينة تأكل وتشرب وتهضم وتمتص، لتصب هذا كله دما نقيا غنيا لهذه البويضة الشرهة النهمة الأكول! وفي فترة تكوين عظام الجنين يشتد امتصاصه للجير من دم الأم فتفتقر إلى الجير. ذلك أنها تعطي محلول عظامها في الدم ليقوم به هيكل هذا الصغير! وهذا كله قليل من كثير! ثم الوضع، وهو عملية شاقة، ممزقة، ولكن آلامها الهائلة كلها لا تقف في وجه الفطرة ولا تنسي الأم حلاوة الثمرة. ثمرة التلبية للفطرة، ومنح الحياة نبتة جديدة تعيش، وتمتد.. بينما هي تذوي وتموت!