فإن قيل: كيف يصح منهم نبذ الكتاب الذي يتمسكون به؟ أقول: نبذهم للبشارة بالنبي محمد (ص) وصفاته ونعته يعد نبذاً لجميع ما في التوراة، وقد بينا هذا في مطلع بحثنا علماً أن موضوع الآيات لا يخرج عن هذا الجانب فتأمل. قوله تعالى: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون) البقرة 102. لما تحدث الحق سبحانه عن نبذهم الكتاب وراء ظهورهم أتى ههنا بما يقابل هذا النبذ وهو الاتباع، فهم قد نبذوا الكتاب من جهة واتبعوا ما تتلوا الشياطين على عهد سليمان من جهة أخرى، أي جعلوا طريق الشياطين هو نفس الطريق المتبع لديهم، ويجب أن نلاحظ دقة التعبير في هذا السياق، فالله تعالى لم يقل واتبعوا ما تلته الشياطين بل قال: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين) من سياق البحث. وفي هذا التعبير ما يدل على أن اتباعهم للشياطين لا يمكن أن يحد بزمان دون غيره فهو لا يزال إلى اليوم والآية تثبت براءة سليمان (عليه السلام) من الكفر الذي كان منتشراً بين الناس بسبب فعل الشياطين، وهذا ما بينه سبحانه بقوله: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا) من سياق البحث.
- واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان
- واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك
- واتبعوا ما تتلوا الشياطين خاشعة
واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان
ولأهمية هذا الأمر ذكر الحق سبحانه ما يقابل أولئك الناس من المؤمنين الذين لا يفرقون بين الرسل، وكيف أعد لهم أجورهم دون أن يبخس حقاً من حقوقهم، فقال عز من قائل: (والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفوراً رحيماً) النساء 152. من هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون) المائدة 49. من بعد هذه المقدمة نصل إلى أن فريقاً من بني إسرائيل قد نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، وسيظهر هذا المعنى من خلال تفصيل الآيات التي أشارت إلى نبذهم كتاب الله في المساحة المخصصة للتفسير، وكذلك سيظهر أن المقصود من نبذهم للكتاب لا يراد منه جميع ما في الكتاب وإنما المقصود أنهم طرحوا الجزء الذي يتضمن الإشارة إلى صفات النبي (ص) والبشارة به إضافة إلى الأمر الموجه إليهم باتباعه والسير على نهجه، ومما يؤسف له أن القوم قد نبذوا جميع هذه التوجيهات واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان كما بينا.
واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك
واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون [ ص: 41] فيه أربع وعشرون مسألة: الأولى: قوله تعالى: واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان هذا إخبار من الله تعالى عن الطائفة الذين نبذوا الكتاب بأنهم اتبعوا السحر أيضا ، وهم اليهود. وقال السدي: عارضت اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم بالتوراة فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وبسحر هاروت وماروت. وقال محمد بن إسحاق: لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم سليمان في المرسلين قال بعض أحبارهم: يزعم محمد أن ابن داود كان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا ، فأنزل الله عز وجل: وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا أي ألقت إلى بني آدم أن ما فعله سليمان من ركوب البحر واستسخار الطير والشياطين كان سحرا. وقال الكلبي: كتبت الشياطين السحر والنيرنجيات على لسان آصف كاتب سليمان ، ودفنوه تحت مصلاه حين انتزع الله ملكه ولم يشعر بذلك سليمان ، فلما مات سليمان استخرجوه وقالوا للناس: إنما ملككم بهذا فتعلموه ، فأما علماء بني إسرائيل فقالوا: معاذ الله أن يكون هذا علم سليمان!
واتبعوا ما تتلوا الشياطين خاشعة
وأما السفلة فقالوا: هذا علم سليمان ، وأقبلوا على تعليمه ورفضوا كتب أنبيائهم حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل على نبيه عذر سليمان وأظهر براءته مما رمي به فقال: واتبعوا ما تتلو الشياطين. قال عطاء: تتلو تقرأ من التلاوة. وقال ابن عباس: تتلو تتبع ، كما تقول: جاء القوم يتلو بعضهم بعضا. وقال الطبري: اتبعوا بمعنى فضلوا. قلت: لأن كل من اتبع شيئا وجعله أمامه فقد فضله على غيره ، ومعنى " تتلو " يعني تلت ، فهو بمعنى المضي ، قال الشاعر: وإذا مررت بقبره فاعقر به كوم الهجان وكل طرف سابح وانضح جوانب قبره بدمائها فلقد يكون أخا دم وذبائح
أي فلقد كان. وما مفعول ب ( اتبعوا) أي اتبعوا ما تقولته الشياطين على سليمان وتلته. وقيل: ما نفي ، وليس بشيء لا في نظام الكلام ولا في صحته ، قاله ابن العربي. [ ص: 42] على ملك سليمان أي على شرعه ونبوته. قال الزجاج: قال الفراء على عهد ملك سليمان. وقيل: المعنى في ملك سليمان يعني في قصصه وصفاته وأخباره. قال الفراء: تصلح على وفي ، في مثل هذا الموضع. وقال على ولم يقل بعد لقوله تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته أي في تلاوته.
وتارة يجعل عدم التصديق بالملاك الديني مرتبطاً بترك مسلمة من مسلماته، كما في قوله: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون) البقرة 85. من هنا نرى أن الطريق الموصل إلى استزلال الشيطان لبعض الناس لا يخرج عن هذه الدائرة، ولذلك نجد أن الكسب الناتج عن أعمالهم السيئة قد جعلهم في موقع متأرجح بين اتخاذ السبيل القويم وبين الميل عنه وأنت خبير بأن عدم استقرار الإنسان في الجانب الإيجابي يجعله عرضة لتأثير الشيطان وذلك بسبب كسبه لقليل من الإثم، وهذا ما بينه الله تعالى في قوله: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا) آل عمران 155.
وملخص موضوع الآية أن اليهود لما نبذوا عهد الله تعالى أرادوا أن يأتوا بما يقابل ذلك، وكأنهم يريدون أن يبينوا للناس أن سليمان لم يحصل على النبوة والملك إلا عن طريق السحر الذي انتشر بين الناس عن طريق الشياطين. هذا من جهة ومن جهة أخرى أرادوا اتباع طريقاً آخر للسحر وهو ما كان يروج له بعض الناس من أن هاروت وماروت كانا هما السبب في ذلك، وكما ترى فإن العكس هو الصحيح، لأن الله تعالى أرسل هاروت وماروت لأجل تعليم الناس طريقة إبطال السحر دون العمل به، وذلك لأنه كان منتشراً بين الناس بسبب تعليم الشياطين إياهم جميع الطرق التي تجعله علماً من العلوم المعتمدة لديهم. ولا يمكن إبطاله إلا بتعليمه أولاً، ولهذا تراهم يقولون: (إنما نحن فتنة فلا تكفر) من سياق البحث. قوله تعالى: (ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون) البقرة 103. يظهر من سياق الآية أن الذين دعاهم الله تعالى إلى الإيمان والتقوى والرجوع إليه جل شأنه، هم من ورد ذكرهم في سياق البحث من الذين كانوا يتعلمون السحر من الملكين هاروت وماروت ببابل دون استعماله للأغراض السلمية وكذلك في الآية إشارة إلى الذين يتبعون ما تتلوه الشياطين على عهد ملك سليمان، وبهذا تظهر النتيجة أن المراد من هذا المجموع هم الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم فتأمل.