هذه الآية الثلاثون في سورة البقرة، أطولِ سور القرآن على الإطلاق، وموضوع سورة البقرة ومحورها الرئيس؛ الحديث عن الخلافة في الأرض، ولذا نجد أن أول ما تطالعنا عليه السورة ذكرُ أصناف البشر الثلاثة: (المؤمن، والكافر والمنافق)، والخليفة في الأرض واحد من تلك الأصناف، فإما أن يكون الخليفة مؤمنًا بالله، خليفة في الأرض بالعدل، وإما أن يكون كافرًا بالله متجبرًا، وإما أن يكون بين هذا وذاك، منافقًا مراوغًا ماكرًا، وليس من المصادفة بعد ذلك أن تأتي في القرآن ثلاث سور بأسماء هذه الأصناف، ففي القرآن سورة المؤمنون، وسورة المنافقون، وسورة الكافرون. هذه الآية: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] وما تلاها من الآيات تطالعنا على قصة استخلاف آدم عليه السلام في الأرض، بعد أن أُعطي المعرفة التي يعالج بها هذه الخلافة، ويقومَ بها، وذلك في قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]، ولكن إيراد هذه القصة، قصة استخلاف آدم؛ ليست هي الغاية التي تريد السورة أن تطالعنا عليها، أو أن توصلنا إليها، وإنما جاء ذكر هذه القصة تمهيدًا ومقدمةً بين يدي الحديث عن المقصد الأسمى والأعلى للسورة، ولعظمة هذا المقصد وأهميَّته؛ مهدت له السورة بذكر هذه القصة، وبذكر غيرها أيضًا.
اني جاعل في الارض خليفة تفسير الميزان
وهكذا ذريته بعده يكون فيهم الأنبياء، ويكون فيهم الرسل، والأخيار، والعلماء الصالحون، والعباد المخلصون، إلى غير ذلك مما حصل في الأرض من العبادة لله وحده، وتحكيم شريعته، والأمر بما أمر به، والنهي عما نهى عنه. هكذا جرى من الأنبياء والرسل، والعلماء الصالحين، والعباد المخلصين، إلى غير ذلك، وظهر أمر الله في ذلك، وعلمت الملائكة بعد ذلك هذا الخير العظيم، ويقال: إن الذي قبل آدم هم طوائف من الناس ومن الخليقة يقال لهم: الجن والحن. أنى جاعل في الأرض خليفة - مكتبة نور. وبكل حال فهو خليفة لمن مضى قبله وصار قبله في أرض الله ممن يعلمهم الله سبحانه وتعالى، وليس لدينا أدلة قاطعة في بيان من كان هناك قبل آدم، وصفاتهم، وأعمالهم، فليس هناك ما يبين هذا الأمر، لكن جعله خليفة يدل على أن هناك من كان قبله في الأرض، فهو يخلفهم في إظهار الحق، وبيان شريعة الله التي شرعها له، وبيان ما يرضي الله ويقرب لديه، وينهى عن الفساد فيها. وهكذا من جاء بعده من ذريته قاموا بهذا الأمر العظيم، من الأنبياء، والصلحاء، والأخيار، دعوا إلى الحق ووضحوه، وأرشدوا إلى دين الله، وعمروا الأرض بطاعة الله وتوحيده والحكم بشريعته، وأنكروا على من خالف ذلك.
اذا قال ربك اني جاعل في الارض خليفه
فلما خلق الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه, كما جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لما خلق الله آدم تركه ما شاء الله أن يتركه, فجعل إبليس يطيف به), جعل إبليس يدور حوله، أو يمر به على وجهين في تفسير معنى قوله: (يطيف به). ( فلما رآه أجوف), أي: إبليس رأى آدم أجوف, ( عرف أنه خلق خلقاً لا يتمالك) ثم صار من أمر آدم لما بث الله فيه الروح أن الله جعله في الجنة, ونهاه عن الأكل من الشجرة, كما هو في كتاب الله في غير موضع. اني جاعل في الارض خليفة تفسير الميزان. فلما عصى آدم ربه وأكل من الشجرة, أمر الله جل وعلا آدم أن يهبط هو وزوجه إلى الأرض. المراد بالخليفة في قوله تعالى: (جاعل في الأرض خليفة)
في خطاب الله لملائكته في شأن آدم في هذا السياق من كتاب الله قوله: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30], وهذا الخليفة هو آدم وذريته فهم خلفاء في الأرض عن الجن؛ لأن الموجودين في الأرض ليسوا مدركين من الحيوان والبهيم, وما في الأرض من المدرك المميز العاقل إلا الجن. والخليفة يكون هو الأعلى, كما يستعمل اسم الخليفة في الولاية فيكون هو الأعلى, فقال: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30], أي: إني جاعل في الأرض من يكون له من الولاية على الأرض والتدبير والشأن فيها ما ليس للجن, وهذا يبين أن كونه خليفة لا يعني زوال أمر الجن, وإنما يكون له من العلو والشأن والتمكين أكثر مما للجن.
ولعل هذا أنجز لأهل القصص من خرافات الفرس أو اليونان فإن الفرس زعموا أنه كان قبل الإنسان في الأرض جنس اسمه الطَّم والرَّم ، وكان اليونان يعتقدون أن الأرض كانت معمورة بمخلوقات تدعى التِيتَان وأن زفس وهو المشتري كبير الأرباب في اعتقادهم جلاهم من الأرض لفسادهم.