يعني أنها تصدَّقت بها كلَّها إلا كتفَها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بقي كلُّها غيرَ كتفِها))، والمعنى أن الذي أكَلتُم هو الذي ذهب، وأما ما تصدَّقتم به فهو الذي بقي لكم. فالحاصل أن الصحابة وذوي الهمم العالية هم الذين يَعرِفون قدر الدنيا وقدر المال، وأن ما قدَّموه هو الباقي، وما أبقَوْه هو الفاني، نسأل الله أن يعيذنا والمسلمين من الشح والبخل والجبن والكسل، والحمد لله رب العالمين. المصدر: «شرح رياض الصالحين» (3/ 160- 166)
قال تعالى لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون
وهذا من باب الاستدلال على الإنسان بما يقرُّ ويعترف به؛ لأنه لا يرضى أن يأخذ الرديء بدلًا عن الطيب، فكيف يرضى أن يعطي الرديء بدلًا عن الطيب؟! لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون. فالخبيث بمعنى الرديء، ومن ذلك أيضًا تسميةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم البصلَ والكراث الشجرةَ الخبيثة؛ لأنها رديئة منتنة كريهة، حتى إن الإنسان إذا أكل منها وبقيتْ رائحتُها في فمه، فإنه يحرُمُ عليه أن يدخل المسجد، لا للصلاة ولا لغير الصلاة؛ لأن المسجد معمور بالملائكة، فإذا دخل المسجدَ آذى الملائكة، والملائكة طيبون، والطيبون للطيبات، تكره الخبائث من الأعمال والأعيان، فإذا دخلتَ المسجد وأنت ذو رائحة كريهة آذيتَ الملائكة. وكان الرجل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد وقد أكل كراثًا أو بصلًا، طردوه طردًا إلى البقيع، والبقيع تعرفون المسافة بينه وبين المسجد النبوي وأنها بعيدة، يُطرَد إلى البقيع ولا يقرب المسجد. ونأسف فإن بعض الناس - نسأل الله لنا ولهم الهداية والعصمة - يشرب الدخان أو الشيشة، ويأتي إلى المسجد ورائحة الدخان والشيشة في فمه أو على ثيابه، مع أن هذه رائحة كريهة كلٌّ يكرهها، حتى إن بعض الناس لا يستطيع أن يصلِّي جنب مثل هؤلاء، وهؤلاء يحرُمُ عليهم أن يدخلوا المسجد والروائحُ الكريهة بفيهم.
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون تفسير
لا شك أن التواصل والتعاون والتكاتف بين الأفراد والمجموعات مهم جدا لتكوين مجتمع متماسك بناء. فالفرد هو أساس المجتمع، تليه الأسرة، فالمدرسة ثم المجتمعات الأخرى، ولقد اتضح مضمون هذه الآية الكريمة في كثير من المواقف الإنسانية.. فعلى سبيل المثال نجد أن فردا يتصف بالكرم بدءا بأولاده ثم الى بقية الأفراد والمجموعات بالتدرج حسب الأهمية والوئام ودرجة الاحتياج. تذكرت هذه الآية الكريمة ورددتها وأنا ــ وأبناء جمعية إنسان ــ نعزي أبناء المرحوم صالح الراجحي الذي لقي ربه والذي كان مشهورا في كرمه وزهده في الدنيا، رحمه الله رحمة واسعة، وبارك الله في نسله الكرام الذين سلكوا مسلكه. الجوع في رمضان إذ يربّينا على العطاء والقناعة – الشروق أونلاين. والإنفاق هو الذي ينقل المال النقدي أو العيني لمستحقيه. كما أن حبس المال في الحسابات أو الأدراج أو في العقارات يعد انتقاصا لأهمية مساعدة المحتاجين وتفريطا برصيد من الحسنات بعد الموت. والاحتياج الفردي هو الذي يتبادر إلى الذهن عند الكلام عن الصدقة، بينما الاحتياج الوطني لا يقل أهمية لأن الوطن هو الإطار الذي يحمي الأفراد ويهيئ لهم الجو المناسب لحياة ناجحة بناءة. فالمدينة أو القرية لا تتم كفاءتها للسكن ومتطلبات المعيشة وما لم يقم الأفراد بأداء واجباتهم حيال جيرانهم وإخوانهم ومؤسسات المجتمع فسوف تكون الوطنية ناقصة وسيكون التحاب والتعاون والتكاتف عناصر وهمية لا تحقق ما يراد منها.
ئناف وقع معتَرَضاً بين جملة { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفّار} [ آل عمران: 91] الآية ، وبين جملة { كُلّ الطعام كانَ حِلاّ لبني إسرائيل} [ آل عمران: 93]. وافتتاح الكلام ببيان بعض وسائل البرّ إيذَان بأنّ شرائع الإسلام تدور على مِحْور البرّ ، وأنّ البرّ معنى نفساني عظيم لا يخرِم حقيقته إلاّ ما يفضى إلى نقض أصل من أصول الاستقامة النَّفسانيّة. فالمقصود من هذه الآيَة أمران: أوّلهما التَّحريض على الإنفاق والتّنويه بأنّه من البرّ ، وثانيهما التنويه بالبرّ الَّذِي الإنفاق خصلة من خصاله. ومناسبة موقع هذه الآية تِلْو سابقتها أنّ الآية السّابقة لمّا بينت أنّ الّذين كفروا لن يقبل من أحدهم أعظم ما ينفقه ، بيّنت هذه الآية ما ينفع أهل الإيمان من بذل المال ، وأنّه يبلغ بصاحبه إلى مرتبة البرّ ، فبيْن الطرفيْن مراتب كثيرة قد علمها الفطناء من هذه المقابلة. قال تعالى لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون. والخطاب للمؤمنين لأنَّهم المقصود من كُلّ خطاب لم يتقدّم قبله ما يعيِّن المقصود منه. والبرّ كمال الخير وشموله في نوعه: إذ الخير قد يعظم بالكيفية ، وبالكميّة ، وبهما معاً ، فبذل النَّفس في نصر الدّين يعظم بالكيفية في ملاقاة العدوّ الكثير بالعدد القليل ، وكذلك إنقاذ الغريق في حالة هوْل البحر ، ولا يتصوّر في مثل ذلك تعدّد ، وإطعام الجائع يعظم بالتعدّد ، والإنفاق يعظم بالأمرين جميعاً ، والجزاء على فعل الخير إذا بلغ كمال الجزاء وشموله كان برّاً أيضاً.