كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما ولدت موسى أمه أرضعته، حتى إذا أمر فرعون بقتل الولدان من سنته تلك عمدت إليه، فصنعت به ما أمرها الله تعالى، جعلته في تابوت صغير، ومهدت له فيه، ثم عمدت إلى النيل فقذفته فيه، وأصبح فرعون في مجلس له كان يجلسه على شفير النيل كلّ غداة، فبينا هو جالس، إذ مرّ النيل بالتابوت فقذف به وآسية ابنة مُزَاحم امرأته جالسة إلى جنبه، فقال: إن هذا لشيء في البحر، فأتوني به، فخرج إليه أعوانه حتى جاءوا به، ففتح التابوت فإذا فيه صبيّ في مهده، فألقى الله عليه محبته، وعطف عليه نفسه. القرآن الكريم - تفسير الطبري - تفسير سورة طه - الآية 39. وعنى جلّ ثناؤه بقوله (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) فرعون هو العدوّ، كان لله ولموسى. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله ( فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ) وهو البحر، وهو النيل. واختلف أهل التأويل في معنى المحبة التي قال الله جلّ ثناؤه ( وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) فقال بعضهم: عنى بذلك أنه حببه إلى عباده. * ذكر من قال ذلك: حدثني الحسين بن عليّ الصدائي والعباس بن محمد الدوري، قالا ثنا حسين الجعفي عن موسى بن قبس الحضرمي، عن سلمة بن كهيل، في قول الله ( وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) قال عباس: حببتك إلى عبادي، وقال الصُّدَاني: حببتك إلى خلقي.
وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْـنَعَ عَـلَى عَـيْنِي
إن المتأمل في مراحل حفظِ الله لموسى منذُ أن كانَ طفلًا رضيعًا، فحفظه الله من لحظةِ ولادتِهِ، وحفظَهُ وهو في التابوت، ومن البحر وأمواجه، ومن جنودِ فرعون، وهذا ليس بغريب، فهو تحت رعايةِ الله وصَنعتِهِ، وقيلَ: {وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِىٓ}؛ أي جعلتُكَ خالصًا مستخلصًا لي، وهذا قد ظهرَ جليًا في قصة موسى -عليه السلام- فقد حَفِظَهُ الله تعالى في جميعِ مراحلِ حياتِهِ وهذا من أوضحِ معاني بأن يصنعه الله على عينِهِ. جاء في تفسير القرطبي لقول الله تعالى: {وَأَلقَيتُ عَلَيكَ مَحَبَّةً مِنّي وَلِتُصنَعَ عَلى عَيني}، ومعنى هذه الآية هو ما قاله ابنُ عباس: "يريد أن ذلك بعيني حيث جعلت في التابوت، وحيث أُلقي التابوت في البحر، وحيث التقطك جواري امرأة فرعون؛ فأردنَّ أن يفتحن التابوت لينظرن ما فيه، فقالت منهن واحدة: لا تفتحنه حتى تأتينّ به سيدتكنّ فهو أحظى لكن عندها، وأجدر بألا تتهمكنَّ بأنكن وجدتن فيه شيئا فأخذتموه لأنفسكن. وكانت امرأة فرعون لا تشرب من الماء إلا ما استقينَه أولئك الجواري فذهبنَّ بالتابوت إليها مغلقًا، فلما فتحته رأت صبيًا لم يُرَ مثله قط؛ وألقي عليها محبته فأخذته فدخلت به على فرعون، فقالت له: قرة عين لي ولك قال لها فرعون: أما لك فنعم، وأما لي فلا"، وقيل أن المقصود أن يُربى ويُغذى على مرأى الله تعالى ونظره.
وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني لجلب الحبيب – لاينز
بمعنى آخر: لم يخلق الله سبحانه وتعالى الإنسان مرتين لأكثر؛ كذلك لم يصنع الكون مرتين فأكثر – حتى الآن – فالصناعتان بداية ونهاية مبذورات فيهن بذرة الحياة والفناء مروراً بالتخليق والتصنيع كيفما كانت مشيئته؛ إذ انتقلت بفضل الله ثم بفضل عناصر معينة قامت على الأشكال الكثيرة فيما يعرف بالإنسان والكون. خصوصية صنعة موسى بن عمران؛ عليه السلام؛ لنفس الله تعالى (واصطنعتك لنفسي) هي أن يقوم موسى مقام الحق تعالى في مواضع القوة والقدرة والسمع والكلام والإرادة والعلم والبصر؛ فيحقق مراد الله في خلقه وتحديداً مناط رسالته لفرعون مصر ثم قومه من بعد؛ لأن فرعون قال بالربوبية والالوهية والقدرة والسمع والبصر والإرادة والعلم فأراد أن يقوم مقام الله في الخلق منفرداً ومتناسيا الرب الواحد خالق كل شيء؛ فنفذ أمر الله تعالى في فرعون من صنعته موسى لنفسه فحقق مبتغاه وأهلك من عاداه. أرأيتم صنع الله الذي أتقن كل شيء؟ صنع موسى وأحاطه بالمحبة محل القيام له مقام الحق فقام بالله مقام الحق نفاذا لتحقيق الغاية من الصنعة وتنفيذاً للعناية والمحبة إحاطة السوار بالمعصم وهذا مقام الصفوية لموسى بن عمران؛ عليه السلام؛ حين قال تعالى بسورة الأعراف: (يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين).
القرآن الكريم - تفسير الطبري - تفسير سورة طه - الآية 39
ومن فوائد الآية الثالثة: فيها:
إثباتُ محبَّةِ الله -سُبْحَانَهُ- لعبدِه موسى، وتحبيبِه لخلقِه. وفيها عنايةُ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- بعبدِه موسى وتربيتُه على مَرأًى منه، وهذه عنايةٌ خاصَّةٌ ومعيَّةٌ لعبدِه موسى تَقْتَضي حفظَه وكلاءتَه وعنايتَه. وفي هذه الآياتِ –أيضا- إثباتُ صفةِ العَينينِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى-، كما يليقُبجلالِه وعظمتِه، فيجبُ على المؤمنِ أنْ يُثبتَ لخالقِه وبارئِه ما أثبتَه لنفسِه من العَينينِ والسَّمْعِ والبصرِ وغيرِها، وغيرُ المؤمنِ مَن ينفِي عن اللهِ ما أثبَتَه في مُحكمِ تنـزيلِه، وكذلك أثبَتَه له رسولُه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-.
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ۚ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي (39) هذه إجابة من الله لرسوله موسى ، عليه السلام ، فيما سأل من ربه عز وجل ، وتذكير له بنعمه السالفة عليه ، فيما كان ألهم أمه حين كانت ترضعه ، وتحذر عليه من فرعون وملئه أن يقتلوه; لأنه كان قد ولد في السنة التي يقتلون فيها الغلمان.