وقامت لجاريته وطلبت منها أن تساعدها في ايجاد سيدها، وعندما نظر لها وعرفها قال عمرو لجاريته: قولي لسيدتك" الصيف ضيعتِ اللبن"، أي قولي لسيدتك بأنها اضاعت ما كانت في رفعة وعز ومال وجاه، وإنها قد أسرعت بالزواج من غيره، فكيف لي أن أعطيكِ ما ضيعته وما كان بين يديك سابقاً، فقد آثرت الزواج بمن هم دوني حبا وكرما وجاه وغنى، أحدهم لقي حتفه خوفاً وفزعاً، والآخر من شدة فقره لم يستطع أن يكرمها كما كان يكرمها ، حتى وصل بها الحال أن تشتهي اللبن من عابر سبيل. وصار من ذلك الوقت يضرب به مثلا في كل من ينكر الخير الذي بين يديه، ويتعالى على النعيم الذي يعيشه، ثم يندم أشد الندم بعد ذلك على ما ضيّع.
- الصَّيفَ ضَيَّعتِ اللَّبن ...!... قصّة الخيرِ المُضيّع بالطَّمع ...!
- الصيف ضيعت اللبن - المعرفة
الصَّيفَ ضَيَّعتِ اللَّبن ...!... قصّة الخيرِ المُضيّع بالطَّمع ...!
هذه القصة أو المثل يُضرب عادة فيمن يقوم بتضييع وخسارة خير جاء له بسبب طمعه الشديد، ولعدم رضاه وقناعته بما يملك. ويشاع أن قصة هذا المثال القائل" الصيف ضيعتِ اللبن" حقيقية ووقعت في زمن العصر الجاهلي. يَروي حُكاة الأمثال والقائلين بها أن بطل هذه القصة يعود إلى أحد وجهاء الجاهلية ويقال له" عمرو بن عمرو بن عُداسٍ"، وهو الذي تزوج قريبته (ابنة عمه) بعد أن صار شيخاً كبيراً وطاعنا في السن، ويروى بأن اسمها كان "دَخْتَنُوس بنت لقيط بن زرارة". وكان زوجها رجل سخي جدا وكريم كل الكرم معها، يحبها جدا ويعاملها برق ولطف ويتصف بالحنان الزائد عليها، لكنها وللأسف الشديد لم تقنع بحالها معه، فقد كرهت كبر سنه وتقدمه في العمر. وكانت زوجته عادة ما تقوم بعمل مقارنات بين حالها مع زوجها وحال صاحباتها اللاتي ارتبطن من شبان دون وجود فارق كبير في السن بينهم، وكانت تتحسر بسبب حظها العاثر والذي جعلها ترتبط بشيخ طاعن في الكبر والسن، وكانت تعتقد بأنها تضيع شبابها وجمالها في ظل زوجها الهرم. وتناست كل ما لدى زوجها من طيبة وكرم ووجاهة وحنان وعلو ورفعة وغنى وتناست أيضاً بأنه شديد الحب والكرم لها، وظلت كارهت كبره سنه ومظهره متأففة لحالها، إلى ان جاء ذلك الوقت حيث وضع زوجها رأسه في حضنها وغفى فترة وسال بصاقه عليها دون قصد، وعندما استيقظ كانت تذكر علله ومساوئه فقال لها: أتحبين وتُسرين بأن أطلقك؟ فأجابت بنعم، ونزل عند رغبتها وطلقها وكان ذلك في فصل الصيف وشاءت الصدف بأن تتزوج تلك الفتاة بشاب بهي المظهر أنيق الشكل وشديد الجمال من" آل زُرارة".
الصيف ضيعت اللبن - المعرفة
تأتي الأيام تلو الأيام، والأيام بيننا دول، وتتقاذفنا الشهور والأعوام.. حسن الله لنا العمل، وتتغير الفصول والمواسم.. و"الصيف ضيعت اللبن"، فهل يُضيع العاقل ما قد يكون بناه طيلة شهور وأعوام في تربية نفسه وتوطينها على الخير في لحظات ضعف ونزوات عابرة، فيسوء الخلق وتُنتهك المحارم وتُضيَّع الحقوق لا لشيء إلا لأن للصيف خصوصياته ومشاغله! ظرف طارئ في السنة، ووضع خاص وحرارة مفرطة وموضات مغرية فلا ضير أن نجاريها عُريا ونتابعها تهتكا، والمحارب لا شك راجع شتاء إلى قلعته بنياشين وَلاَ مَجد! خطرات تزاحمت في ذهني وذكرتني بانتهاكات تكاد تكون مقترنة بهذا الفصل؛ اختراق لخصوصيات الغير، ضعف احترام المواعد، السهرات المضيعة للصلوات، الزيارات الطويلة بلا استئذان ولا سابق إنذار، التزاحم والشجار في محطات المواصلات، وإليكم بواحدة أحبائي من داخل مقصورات القطار، هذه المرة في ذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقرؤوا يرحمكم الله.. وعوا.. ولا تلغوا، فهو مشهد قد يتكرر في أوقات الذروة لا قدر الله. هالني – ولبئس ما هالني – ما رأته أم عيني في القطار خلال عودة من رحلة لصلة الرحم وعيادة المريض، كما أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث ليتمم مكارم الأخلاق.
ولو غضضنا الطرف عن بعض الأخطاء التي جردت الإنسان من تحرره من ذاته، ليكون جاهزاً ومستعداً لأن يرتبط بالتغييرات الفكرية التي شملتها الحداثة وتم فيها خروج الإنسان من الوصاية والرعاية إلى مظاهر مختلفة أكثر جرأة واستقلالية وفردانية، أخذت منحى مؤثراً عقد العلاقة بين الفرد والنوع والمجتمع والثقافة والأفكار. فأصبحت أغلب عقود النكاح تشترط عمل الزوجة ومساواة الحقوق والواجبات، واختلطت الأدوار وتحول النصف الثاني إلى مسؤوليات جسام من أعمال خارج المنزل وتكاليف إضافية للمربية والسائق، وكل هذا أدى إلى الخروج من دائرة الزوجية إلى التنازل عن دور الأمومة بموافقة الجميع. ففي هذا العصر ظهرت العلوم والتقنية والصناعات والتغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومعها منابع للحرية تفجرت عند أقدام الكائن البشري، ولم يستطع إصلاح الخلل المختبئ خلف الممارسات الفعلية. ونستنبط من الأحداث الراهنة عدة نقاط جوهرية أصابت مجتمعنا أهمها ارتفاع نسبة الطلاق، وعمل الأمهات الذي أدى إلى انصراف الأبناء إلى مصائر مجهولة ووحدة موحشة وانتشار العنف والعزلة أمام الأجهزة الذكية، فكثير من الشقاء الذي يصادف الأسر هو تخلي الأمهات عن أدوارهن مقابل توفير المال بزعم حياة أفضل.