لقد كانت تعجب به حين يتحدث، وحين يقرأ، وحين يكتب... أما هو، فيشهد أنه لم يكن يكتب إلا لها، لها وحدها! لم يكن يهمه أن يرضى عنه الناس ما دامت هي راضية، ولم يكن يحفل بأن يتحدث عنه الناس ما دامت هي تتحدث عنه... ولقد بلغ به الغرور وهو في غمرة إعجابها به حداً جعله يعتقد أن ليس هناك من يكتب خيراً منه، ولا من يفهم خيراً منه، ولا من يتذوق آثار الأدب والفن خيراً منه!!.. وكان حين يسألها عن أي المجلات الأدبية تحب، وحين يتلقى جوابها مشفوعاً بأسباب التفضيل والإيثار يبعث إلى هذه المجلة بمقال، وإلى تلك بغيره. لقد كان يود دائماً أن يرى نفسه إلى جانبها، حتى إذا عاتبته يوماً على غيابه الذي طال اعتذر لها بأنه كان معها بالفكر والروح، وحسبها وحسبه أن يلقاها وتلقاه... بين السطور والكلمات! وتشهد دار الرسالة كلما ظهر له في الرسالة مقال، أنه كان يقصد إليها في يوم السبت ليحمل إليها العدد قبل صدوره لتكون هي أول م يقرأ مقاله وأول من ينقده... لقد كانت تحرص دائماً على أن تكون أسبق الناس إلى لقائه؛ تلك التي كان يرجو أن تصبح يوما شريكة حياته... مجلة الرسالة/العدد 289/عجوة ببيض - ويكي مصدر. وكم بنى من قصور الأوهام ما شاءت له فنونه وشجونه! كم أقام على دعائم الخيال عشهما المنتظر؛ عشهما الجميل الهادئ، ذلك الذي يملؤه الأطفال أنساً ومرحاً وبهجة، تملؤه هي حباً وحناناً ورحمة!!.
مجلة الرسالة/العدد 289/عجوة ببيض - ويكي مصدر
مجلة الرسالة/العدد 791/من الأعماق
للأستاذ أنور المعداوي
- 1 -
سأل نفسه وهو يشهد ليلة تنطوي وفجراً يبزغ: أيمكن أن تمر تلك الليلة على إنسان كما مرت عليه؟... وسمع جواب نفسه منبعثاً من أعماقه: محال...! وكانت ليلة عيد... ولا يذكر أنه أحس القفر في حياته كما أحسه في تلك الليلة، ولا يذكر أنه أنكر دنياه كما أنكرها في تلك الليلة، ولا يذكر أنه استشعر الوحدة والغربة والفراغ كما استشعرها في تلك الليلة... لقد كان يشم في كل شئ حوله رائحة الموت، الموت الكريه البشع الذي يتراءى للأحياء في الليالي السود، ويلف الآمال في أكفانه، ويهيل على جمال الحياة أكوام التراب!. وأشرقت شمس العيد ترسل ضياءها إلى قلوب الناس إلا قلبه... لقد بقي وحده في الظلام، ظلام الأماني التي ذوت، والفرصة الكبرى التي انطوت، والدنيا التي ذهبت إلى غير معاد. ولأول مرة منذ سنين، شعر بدافع قوي إلى البكاء، وحاول أن يبكي ولكنه لم يستطع. لقد تجمدت الدموع في عينيه ثم تحدرت إلى قلبه قطرات: فيها من دفء عاطفته، وفيها من وقدة وجدانه، وفيها من لوعة حرمانه... وفيها من وهج أساه!. ونظر إلى السماء نظرة من يبحث عن شئ عزيز قد ضاع منه، أو نظرة من يسأل السماء سؤالاً لا جواب عليه: أين يا رب يجد الصبر وينشد السلوة ويلتمس العزاء؟ كل شئ قد انتهى، وكل جلد قد انقضى، وكل زاوية من زوايا النور قد أغلقتها يد الزمن... وها هو يمضي في الحياة وحيداً بلا رفيق، وغريباً بلا حبيب، وجرحاً تخضبت معالم الطريق من فيض دمه!.
وجلسنا إلى السفرة وشربت عصير الليمون، فشاع الاغتباط في كياني؛ وجاء الطبق وفيه البيض والعجوة، ففركت يدي، ودفعت طبقي إلى امرأتي وقلت: (الله يرضى عنك يا امرأة! هاتي! هاتي! وليسخط علي الأطباء ما شاءوا وما وسعهم السخط؛ وليزعموا أني أزيد معدتي تلفاً، فما أباليهم، أو أحفل مشوراتهم. هاتي، هاتي... ترى ماذا أذكرك العجوة والبيض.. لا، لا، لا.. هذا لا يكفي... إني أتضور جوعا... أكثري، أكثري)
فتقول (معدتك تتلف... يكفي هذا المقدار)
فأصيح: (لا لا... على رأي العامة (هم، وقلة مم! ) هاتي، ولا تخافي)
فتقول: (هل معنى هذا أنك ستعطيني ما طلبت؟)
فأصيح (يا ستي خذي ما شئت... كلّي لك... ولكن هاتي من هذا واكثري)
فتنهض وهي تقول (ومعدتك؟)
فأقول (سننظر في أمرها فيما بعد. وأحسب أني لن أعدم طبيباً يستطيع أن يسكن آلامها. أتعرفين أنه يخطر لي أن الطب قد أخفق لأنه لم يستطع إلى الآن أن يغنينا عن المعدة؟ فليت هناك دكانا تباع فيه أعضاء جديدة من الجسم تركب له وتتخذ بدلا من التي تتلف، على نحو ما تباع قطع السيارات! إذن لوسعني أن ألتهم كل ما في هذا الطبق الشهي. ولكن آخ! ) وأجدني أكلم نفسي، فأتلفت مستغربا، وإذا بها تعود ويدها مبسوطة بمائة وعشرين قرشا فأهز رأسي وأسألها
(ما حاجتك إلى كل هذا؟)
فتخبرني أنها دعت (أم أحمد) وأنها تنوي أن تكلفها شراء ثياب لكسوة الخدم، فقد آن ذلك جداً، وقد اختارت أم أحمد لأنها ممن أخنى عليهن الذي أخنى على من نسيت اسمه - آه لبد، يا له من اسم!