لقد نزلت سيوف محمد بن مسلمة وأصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ على جسد عدو الله ابن الأشرف فوقع قتيلاً، وقد صاح صيحة شديدة أفزعت من حوله من اليهود، فلم يبق أحدٌ منهم إلا استيقظ من نومه، وفي الصباح علموا بمقتله، فدبَّ الرعب في قلوبهم الحاقدة، وعلموا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لن يتوانَى في استخدام القوة حين يري الغدر منهم، فلم يُحركوا ساكناً، بل استكانوا ولزموا الهدوء، وتظاهروا بإيفاء العهود، وهكذا تفرغ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلي حينٍ، لمواجهة الأخطار التي كان يتوقع حدوثها من خارج المدينة. فائدة:
اتخذ بعض أعداء الإسلام قصة مقتل كعب بن الأشرف من السيرة النبوية شبهة لمحاولة النيل من نبينا ـ صلى الله عليه و سلم ـ واتهامه بالغدر، وربما يحدث للبعض عند معرفته لهذه القصة خطأ في الفهم فيقول بجواز الغدر بالكفار، وهذا خطأ كبير، إذ ليس في القصة غدر كما يمكن أن يُتَوَّهَم. قال الإمام البغوي: " قد ذهب من ضلَّ في رأيه, وزلَّ عن الحق, إلى أن قتل كعب بن الأشرف كان غدراً وفتكا, فأبعد الله هذا القائل, وقبَّح رأيه, ذهب عليه معنى الحديث, والتبس عليه طريق الصواب ". فهذه القصة الصحيحة من سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ليس فيها غدر ولكنها الخدعـة، وهناك فرق بين الغدر والخدعة، فالغدر قدْ نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنه، فعن بريدة ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أَمَّرَ أميراً على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: ( اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً) رواه مسلم.
باب: قتل كعب بن الأشرف - حديث صحيح البخاري
ورجعت المفرزة وقد أصيب الحارث بن أوس بذُبَاب بعض سيوف أصحابه فجرح ونزف الدم، فلما بلغت المفرزة حَرَّة العُرَيْض رأت أن الحارث ليس معهم، فوقفت ساعة حتي أتاهم يتبع آثارهم، فاحتملوه، حتي إذا بلغوا بَقِيع الغَرْقَد كبروا، وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرهم، فعرف أنهم قد قتلوه، فكبر، فلما انتهوا إليه قال: « أفلحت الوجوه »، قالوا: ووجهك يا رسول الله، ورموا برأس الطاغية بين يديه، فحمد الله على قتله، وتفل علي جرح الحارث فبرأ، ولم يؤذ بعده.
ولما علمت اليهود بمصرع طاغيتها كعب بن الأشرف دب الرعب في قلوبهم العنيدة، وعلموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يتوانى في استخدام القوة حين يري أن النصح لا يجدي نفعاً لمن يريد العبث بالأمن وإثارة الاضطرابات وعدم احترام المواثيق، فلم يحركوا ساكناً لقتل طاغيتهم، بل لزموا الهدوء، وتظاهروا بإيفاء العهود، واستكانوا، وأسرعت الأفاعي إلى جحورها تختبئ فيها .
وهكذا تفرغ الرسول صلى الله عليه وسلم ـ إلي حين ـ لمواجهة الأخطار التي كان يتوقع حدوثها من خارج المدينة، وأصبح المسلمون وقد تخفف عنهم كثير من المتاعب الداخلية التي كانوا يتوجسونها، ويشمون رائحتها بين آونة وأخري .
قال: ويدخل محمد بن مسلمة معه رجلين ـ قيل لسفيان: سمّاهم عمرو؟ قال: سمّي بعضهم ـ قال عمرو: جاء معه برجلين، وقال غير عمرو: أبو عبس بن جبر، والحارث بن أوس، وعبّاد بن بشر. قال عمرو: جاء برجلين، فقال:إذا ما جاء فإني قائل بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فأضربوه. وقال مرّة: ثم أُشِمُكم فنزل فنزل إليها متوشحا وهو ينفح منه ريح الطيب، فقال: ما رأيت كاليوم ريحا، أي أ طيب، وقال غير عمرو: قال: عندي أ عطر نساء العرب و أكمل العرب. قال عمرو: فقال: أتأذن لي أن أشَم رأسك؟ قال: نعم، فشمَّه ثم أشم أصحابه، ثم قال: أتأذن لي؟ قال: نعم، فلمّا ا ستمكن منه، قال: دونكم، فقتلوه، ثم أ وتوا النبي صلى الله عليه وسلم فاخبروه))/ 7 حديث رقم 4037. تراجيديا الجمال هذه هي رواية البخاري، وهي رواية أحاد، يرويها عمرو بن دينار سماعا عن عبد الله بن جابر الانصاري. الرواية تحمل عناصر كثيرة تصدِّعها من داخلها، فإن إمرأة كعب كانت قد نصحت كعب أن لا يذهب مع الرجلين إلى ا لقلعة، ولكن كعب أكد لها أنْ لا خطر عليه، لانه مطمئن إلى محمد بن مسلمة فهو أخوه، كما أن أبو وائلة أ خاه بالرضاعة، حيث نقع هنا على مفارقة كبيرة، ذلك كان الأولى بكعب أن يقول لزوجه أن الرجلين إكتشفا حقيقة محمد، وإنهما صبئا عن دين الاسلام بعد ان تسبب ذلك في فقرهما!