هذا هو، وهذه صورته الأرضية. هذا ملاك يعذّب. هكذا يُعذّب جدي في مكان ما، مثلما يحصل الآن للأبقار والخراف. جدي شجاع لكنه مقيّد بسلاسل الذنوب، ومقيّد بحبال المعاصي. بينما يضرب الجزّار عنق الخراف، ينزل الدم حاراً والجسد يلفظ أنفاسه خاوياً. هذا هو الملاك الجميل الذي يقيم العدل، ويأخذ الثأر من جدي. ثأر الذين أساء إليهم الجدّ ذات يوم. مخاطباً نفسي: ما زلت صبياً، افعل ما تشاء، ثم صلِّ بعد ذلك، وسوف يسجل أحدهم حسنةً فتتكور تلك الحسنة وتتحول إلى كرة من نار، وتحرق سيئةً فعلتها في ما مضى، أي بمعنى ثمّة هامشٌ للخطأ. وأخيراً وجدتها أيها المرح الصغير، دعك من الألم، وأزح جانباً سجلّ السيئات. تعال وافعل صواباً، لتتعادل كفّتا الميزان. صلِّ أيها الصغير، واختنق في صلاتك بالدمع توسّلاً، فما هي إلا أيام وسيأتيك فصل الجوع. في الفجر، هبّ الجميع في مشهد غريب إلى المائدة. ليس وقت الطعام يا أمي، ليس وقت العشاء يا أبي. بادرت عمتي على الفور هل تصوم؟ نعم قلت من دون تردد، فبدأ فصلٌ جديد من الحياة. اذن الفجر الباحه حراج. عرفت أننا في رمضان الذي يُمنع في نهاره تماماً الأكل والشرب. خضعت لذلك كي أدفعه ثمناً للأخطاء والمشاكسات التي سبق وفعلتها، فالحسنات تُذهب السيئات، لكن في الظهيرة القاسية تلك نال الجوع مني، ونال العطش من براءتي، ولا أحد يفتح الثلاجة، ولا أحد في المطبخ، ولا أحد في الباحة.
- اذن الفجر الباحه رافد
- اذن الفجر الباحه حراج
اذن الفجر الباحه رافد
أخذت رشفةً سريعةً من الماء البارد ورغيفاً بحجم الإصبع، التهمته ويدي على فمي، وخرجت مسرعاً إلى الشارع، لأناشد الملائكة أن الجوع قد نال مني، وأن قطعة الخبز صغيرة، صغيرة بحق ويجب ألا تُسجَّل، وأن الماء هو من وقع على فمي دونما إرادة. خاوياً انتهى بي اليوم، مثل قطعة ملابس مكور إلى الداخل، وجافٌ مثل نبتة ميتة، ويابسٌ مثل ورقة سقطت في الخريف الماضي. هكذا يُعذّب جدي في مكان ما، مثلما يحصل الآن للأبقار والخراف تعال اسمع الحكاية... فتعال أيها الشقي لقد فعلت الكثير. لقد كبرت وستؤدبك الحكايات، وستمنحك الحكمة والثبات، وستلوي عنقك قصص أجدادنا الموتى وخرافتهم. ستصرعك وتكسر أنفك لحظة واحدة من عذاب نالها ميتٌ ما. تعال أيها الجسور، يا من تعبر أسوار المدرسة من دون إذن المعلمة. تعال اسمع الحكاية التالية: "مات أحدهم، وبعد فترة وجيزة، جاء ملكٌ عملاق ضربه بسوط فارتفع جسده بفعل الضربة إلى السّماء، وعاد الجسد إلى الأرض مكسّراً كما لو أنه طين يابس. مواقيت الصلاة في رحيمة. لقد تفطر الجسد، ثم التألم من تلقاء نفسه. أخرج الملك سوطاً من يده الأخرى، فضرب الجثة ثانيةً، فصعدت إلى السّماء ثانيةً لكنها لم تعد. لقد غادرت إلى عالم لا نعرف عنه الكثير".
اذن الفجر الباحه حراج
أول سفرة كانت عندما ذهبنا إلى القبور. لكن هذه العلاقة الشائكة والملتبسة خضعت في ما بعد لتغيرات لا يمكن تصديقها على نحو منطقي، لكن الرابط الأساس في كل أطوار علاقتي بالموت هو الخوف كما هو الحال عند غالبية البشر. بالقليل من الانتباه عرفت أن الموت يريدك أن تمر خالياً من الذنوب، إلى الحديقة الكبيرة، إلى أشجار التفاح وملاعق الذهب. بخلاف ذلك، ستنال منك الأفاعي، وسيدخل ثعبان الصواب من دبرك ويخرج من أنفك، ومؤخرتك ستكون مكاناً جيداً لأرطال من الحديد تدخل كما لو أنك قد أصبحت طريقاً سريعاً لمرور المعادن، وسيسلخ جلدك الطّري لو فكرت في ما يعيق مرورك إلى النهر الأزلي. عن الموت... عندما حلّ الخروف بديلاً من جدّي - رصيف 22. بخلاف ذلك ستصبح وقوداً لجهنم، لذا لا مجال في الحياة للأخطاء، لأن عصا الموت تترقب. ثمّة حكايات وأحاديث يتداولها الناس بشكل يومي عما بعد الموت، تشمّ عبرها روائح جثث تُشوى، وأخرى تتقطع. لا فرار غير الحفاظ على جسدك من الخطيئة والشر. لربما المفهومان غير واضحين بالنسبة إلى الصبي المرتعد الخائف وقتها، لكنه سيموت حتماً، ولا خلاف على ذلك، لذا حاذر. مت نقياً تقياً، بلا أخطاء، ولا عصيان لأوامر الجدة، ولا شتائم لمن يسرق كراتك الزّجاجية، ولا صراخ في وجه الأم، ولا ركض خلف عربة بائعي الحاجات المستعملة، فأين ستفرّ من العذاب لو فعلت ذلك، وأنت من لحم وعظام لا تسمح لك بمقاومة الملائكة الأفذاذ منفذي العذابات وسالخي الجلود ولاعقي جراحك الأبدية؟ في الأشهر اللاحقة لموته، جاءت جدتي بثور ضخم من ذوي القرون الملتفة على نفسها، ليحل مكان الجد بالمعنى الرمزيّ.
الثلاثاء 5 أبريل 2022 01:23 م تنويه لا أثر للخيال في هذه المادة. قد يبدو مريعاً أنني عشت في هذا الشكل، لكن هذه هي حياتي التي تشبه حياة كثيرين صادفتهم وعشت معهم. هذه هي حياة الناجين الذين عبروا برؤوسهم إلى ما خلف سور الوصايا، فما كان أمامهم إلا المزيد من الخوف والفراغ. البيئة القاسية ليست تلك التي حياتها قاسية فحسب، بل التي تنظر إلى الموت بطرق قاسية ومروّعة. فصل التدرب على نبذ الحياة البيئة القاسية ليست تلك التي حياتها قاسية فحسب، بل التي تنظر إلى الموت بطرق قاسية ومروّعة. لن يتصالح الكائن البشري مع الموت. قبالة ذلك يرمي تأويلاته ويبثّ خيالاته اللا نهائية إزاء ما بعده. كنت هناك، في المكان الذي يفكر في الموت أكثر من الحياة، حيث تتقافز الوعود وآليات العقاب فوق حساء العائلة، وحيث تنطّ فئران الموت من كلّ زاوية وتقرض حياتنا إلى الأبد، كما لو أنها قطعة قماش قديمة. الحياة هي المسافة التي نتصارع فيها مع الموت. اذن الفجر الباحه اليوم. ليست الحياة سوى تنويعة على الموت، لذا هي مسافة إلى محو محض أو اختبار أكبر مما يحصل في المدرسة، هكذا نعلم، وعبر هذه الخلاصات نمر ويجب أن ننصهر داخل هذه الحقيقة ونتكوّر. هذا ما يبثه الموروث الدينيّ والمزاج الثقافيّ الملتوي.