وفي رواية أخرى عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: "كان أناس من الأنصار لهم أنسباء وقرابة من قريظة والنضير وكانوا يتقون أن يتصدقوا ويريدونهم أن يسلموا فنـزلت: ( ليس عليك هداهم…) ". و(يتصدقوا) الواردة في هذه الرواية بمعنى الصلة والنفقة لأن الصدقة قربة إلى الله ولا تجوز لغير المسلم. وأخرج ابن جرير كذلك عن سعيد بن جبير: كانوا يتقون أن يرضخوا لقراباتهم من المشركين حتى نزلت: ( ليس عليك هداهم و لكن الله يهدي من يشاء). للفقراء الذين احصروا في سبيل الله اموات. وقد ذكر القرطبي عن بعض المفسرين أن أسماء ابنة أبي بكر الصديق أرادت أن تصل جدها أبا قحافة ثم امتنعت عن ذلك لكونه كافراً فنـزلت الآية في ذلك. وعليه فإن سياق الآيات مستمر بنسق واحد مع التركيز على عدم استعمال النفقة أو منعها لإجبار الناس على الدخول في الإسلام. ومن الجدير ذكره أن عدم إجبار الناس على الدخول في الإسلام لا يعني عدم إجبارهم على النـزول عند أحكام الشرع وتطبيق أحكام الشرع عليهم من قبل الدولة الإسلامية، فذلك فرض فرضه الله ويجب على الحاكم والمحكوم الخضوع له بطاعة الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم أو بالعقوبة ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليماً).
للفقراء الذين احصروا في سبيل الله صوره ومقاصده
والإلحاف: الإلحاح في المسألة ، ونصب على أنه مفعول مطلق مبين للنوع ، ويجوز أن يكون حالا من ضمير ( يسألون) بتأويل ملحفين ، وأيا ما كان فقد نفي عنهم السؤال المقيد بالإلحاف ، أو المقيدون فيه بأنهم ملحفون - وذلك لا يفيد نفي صدور المسألة منهم. مع أن قوله يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف يدل على أنهم لا يسألون أصلا.
( وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله) أي يكون ثوابه لأنفسكم في حال كونكم تنفقونه ابتغاء وجه الله. ( ما تنفقون) لا تنفقون والواو للحال والجملة حال. تفسير: (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض ...). ( ابتغاء) مفعول لأجله. ( وجه الله) كناية عن ذات الله سبحانه، وفي هذا الاستعمال الإخلاص الخالص لله فإن قولك: فعلت هذا لأجل زيد يحتمل أنك فعلته له وحده أو فعلته له ولغيره، أي فيه معنى الشراكة، فإن قلت: فعلته لوجه زيد كان خالصاً لزيد وحده. وبذلك ( ابتغاء وجه الله) أي خالصا لله وحده. ( وما تنفقوا من خير يوفَّ إليكم وأنتم لا تظلمون) بيان للجملة الشرطية ( وما تنفقوا من خير فلأنفسكم) أي بيان (لأنفسكم) أنه يوفى إليكم في الدنيا والآخرة دون أن تظلموا أي دون أن تبخسوا من الوفاء شيئاً فالله هو الموفي وهو خير الحاكمين، في الدنيا بمباركة المال وفي الآخرة بالأجر العظيم: "اللهم اجعل لمنفق خلفاً ولممسك تلفاً" (1) كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم يبين الله سبحانه أن الأولوية في الصدقات للمنقطعين للجهاد الذين ينشغلون به عن السعي في الأرض طلبا للرزق، والذين لا يلحون في سؤال الناس حتى لكأنهم أغنياء لتعففهم في السؤال ولولا ما يظهر عليهم من أثر الجوع في الجسم ورثاثة اللباس لما عرف حاجتهم أحد.