حكم الاحتجاج بالقدر على الذنوب ، فمن المعلوم أنّ الكثير من الضالين والمشركين والكافرين والمقصّرين في عبادة الله تعالى والذين انحرفوا عن منهجه سبحانه وتعالى، وجدوا في القدر فسحةً ومجالًا ليحتجّوا به على فسادهم وكفرهم وضلالهم وتقصيرهم، ولقد ورد في القرآن والسنّة وأقوال علماء الإسلام ما يرد على ادعاءات هؤلاء ويدحض حجتهم. [1]
معنى القضاء والقدر
قبل أن نعرف حكم الاحتجاج بالقدر على الذنوب ، علينا أن نعرف معنى القضاء والقدر وكيف عرفه العلماء، ومن العلماء من عرّفهما مجتمعَين ومنهم من عرّف كلّ واحد منهما على حدة، فقيل أنّ القدر هو علم الله سبحانه وتعالى بالذي تكون عليه المخلوقات جميعها في المستقبل، أمّا القضاء فهو أنّ الله أوجد كلّ الأشياء وفق إرادته وعلمه، وقد عرّف الإمام أحمد بن حنبل القدر فقال: "قدرة الرحمن"، وقال الطحاوي: "وكل شيء يجري بتقدير الله ومشيئته، ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد.. إلا ما شاء، فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره" ، والله تعالى أعلم.
الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي والرد على ذلك
فقال: «من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة» ، فقال: «اعملوا فكل ميسر، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة» ، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5-10]( [5]). ففي هذا الحديث تصريحٌ بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعمل، وعدم الاتكال والاعتماد على القدر، يقول الإمام الطبري: "هذا الذي انقدَح في قلب الرجل هي شبهة النافين للقدر، وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بما لم يبق معه إشكال، وتقرير جوابه: أن الله سبحانه غيّب عنَّا المقادير، وجعل الأعمالَ أدلة على ما سبقت به مشيئته من ذلك، فأمرنا بالعمل، فلا بد لنا من امتثال أمره"( [6]). ثالثًا: نقض الفطرة لشبهة المحتجّين بالقدر على المعاصي:
من المستقرّ في فطرة كلّ عاقل: أن من ذمَّك ذممته، ومن عابك عِبته، ومن ظلمك في نفسك أو مالك عاملته معاملة الظالم. حكم الاحتجاج بالقدر على الذنوب - موقع محتويات. وهنا يتوجَّه السؤال لهؤلاء المحتجين بالقدر على فعل المعاصي: كيف يعذر الواحد منهم نفسَه إذا عصى الله تعالى، ولا يعذر الناس إذا ذموه أو ظلموه، بل يبغضهم ويذمهم، ويقابلهم على ظلمهم بما يقدر عليه؟!
حكم الاحتجاج بالقدر على الذنوب - موقع محتويات
ج- القدرة؛ فالعاجز عن فعل الشيء المطلوب لا يكلف، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، والله لم يكلف الناس ما لا يطيقون. د- قيام الحجة الرسالية؛ بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وبهذه الأمور نعلم أن الحجة قد قامت على العباد، ولا تعارض بينهما وبين القدر السابق.. [7]. [1] الحديث أخرجه البخاري في كتاب القدر (11) تحاج أدم وموسى، (7/214)، ورواه مسلم في كتاب القدر باب (2) حجاج آدم وموسى، (3/2042) حديث رقم (13). [2] القضاء والقدر، د. عبدالرحمن المحمود، (ص:412). [3] المرجع نفسه، (ص:414). [4] القضاء والقدر، د. عبدالرحمن المحمود، (ص:421). [5] راجع هذه الشبه وغيرها تفصيلاً في المرجع السابق من (ص:407) إلى (ص:443). [6] القضاء والقدر، د. عمر الأشقر، (ص: 100). [7] القضاء والقدر، د. عبدالرحمن المحمود، (ص:411).
ولما كان المتكلّم العليم الخبير سبحانه جازمًا بانتفاء ذلك أعقبَه بالجواب: إن تتَّبعون إلا الاعتقادَ الفاسد، وما هو إلا الوهم والخيال، وإن أنتم إلا تكذبون على الله فيما ادَّعيتموه( [4]). الوجه الثالث: قيام الحجة بإرسال الرسل لا بالقدر:
قد بيَّن الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيزِ أن الحجةَ قد ثبتت وقامت على الناس جميعًا بإرسال الرسل، ولو كان القدر حجةً تصلح للاحتجاج بها على المعاصي لما انتفت الحجة بإرسال الرسل؛ يقول الله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165]؛ فمن وظائف الرسل أنهم يبشّرون من أطاع الله تعالى بالخيرات والرضوان، وينذرون من عصى الله تعالى وخالف أمره بالخزي والخسران؛ لئلا يبقى لمعتذر حجّة واعتذار. ثانيًا: دلالة السنة على بطلان شبهة الاحتجاج بالقدر على المعاصي:
دلَّت السنة المطهَّرة على بطلان الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي والذنوب في أحاديث كثيرة، ومنها: ما رواه الشيخان عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما منكم من أحد -ما من نفس منفوسة- إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار، وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة» ، قال: فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟!
تفسير سورة الفجر
وهي مكية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ ( 1)
وَلَيَالٍ عَشْرٍ ( 2) وَالشَّفْعِ
وَالْوَتْرِ ( 3)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ( 4) هَلْ
فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ( 5). الظاهر أن المقسم به، هو المقسم
عليه، وذلك جائز مستعمل، إذا كان أمرًا ظاهرًا مهمًا، وهو كذلك في هذا الموضع. تفسير سوره الفجر العريفي. فأقسم تعالى بالفجر، الذي هو
آخر الليل ومقدمة النهار، لما في إدبار الليل وإقبال النهار، من الآيات الدالة على
كمال قدرة الله تعالى، وأنه وحده المدبر لجميع الأمور، الذي لا تنبغي العبادة إلا
له، ويقع في الفجر صلاة فاضلة معظمة، يحسن أن يقسم الله بها، ولهذا أقسم بعده
بالليالي العشر، وهي على الصحيح: ليالي عشر رمضان، أو [ عشر] ذي الحجة، فإنها
ليال مشتملة على أيام فاضلة، ويقع فيها من العبادات والقربات ما لا يقع في غيرها. وفي ليالي عشر رمضان ليلة
القدر، التي هي خير من ألف شهر، وفي نهارها، صيام آخر رمضان الذي هو ركن من أركان
الإسلام. وفي أيام عشر ذي الحجة، الوقوف
بعرفة، الذي يغفر الله فيه لعباده مغفرة يحزن لها الشيطان، فما رئي الشيطان أحقر
ولا أدحر منه في يوم عرفة، لما يرى من تنزل الأملاك والرحمة من الله لعباده، ويقع
فيها كثير من أفعال الحج والعمرة، وهذه أشياء معظمة، مستحقة لأن يقسم الله بها.
تفسير سوره الفجر العريفي
[٢]
بيان ما حلّ في الأقوام السابقة من العذاب
تحدّثت الآيات من (6-14) عن قصص بعض الأمم السابقة المكذبة للرسل؛ كعاد وثمود وقوم فرعون وما وقع بهم من العذاب، ونبيّنها فيما يأتي:
قال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ* إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ* الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ) [٣] وجّه الله -تعالى- الخطاب في هذه الآيات لرسوله -صلى الله عليه وسلم- وللمسلمين؛ ألم تروا كيف أهلك الله هذه الأمم الطاغية؟ مثل قوم عاد الجبارين؛ وهم قبيلة إرم القبيلة المعروفة في اليمن ذات القوة والأبنية العالية، والتي لم يُوجد مثلهم بالقوة والبأس. [٢]
(وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ* وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ) [٤] أي: وكيف أهلك الله ثمود؛ وهم قوم النبي صالح -عليه السلام- الذين نحتوا الصخور بقوّتهم، فاتّخذوها مساكن، وكيف أهلك الله -تعالى- فرعون مَلِك مصر الذي كان له الكثير من الجنود الذين ثبَّتوا مُلْكه، وقوَّوا له أمره. [٢]
(الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ* فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ* إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) [٥] أي قوم عاد وثمود وفرعون ومن تبعهم، فإنهم ظلموا الناس، وآذوهم في دينهم ودنياهم، ونشروا الفساد في الأرض، فلما أكثروا فيها الفساد، وسَعَوا في محاربة الرسل وصدّ الناس عن سبيل الله؛ عاقبهم الله -تعالى- عقوبةً شديدة، فعذّبهم عذاباً شديداً، وذلك بسبب طغيانهم.
﴿ وَالْفَجْرِ ﴾ أقسم بالفجر إذا غطى العالم بضيائه. ﴿ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ وأقسم بالليالي العشر الأول من ذي الحجة؛ لشرف زمانها، ففيها الحج والنسك. ﴿ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ﴾ وأقسم بالزوج والفرد من كل نوع وصنف فما تناسل كان له زوجان، وما كان جامدًا ففرد واحد. ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴾ وأقسم بالليل حين يمضي بظلمته، ويذهب بسواده. ﴿ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ﴾ هل فيما أقسمت به من هذه المخلوقات قسم كافي لمن له عقل يرشده. ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ﴾ ألم تعلم ماذا فعل ربك بعاد قوم هود. ﴿ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ﴾ أهل المدينة العظيمة ذات البناء الرفيع والقصور والأعمد. ﴿ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴾ التي لم يوجد مثل بنائها العجيب. ﴿ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ﴾ وثمود أهلكناهم وكانوا يقطعون الصخور في أوديتهم ويبنون بها. ﴿ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ﴾ وأهلكنا فرعون وقصوره العظيمة، وجنوده. القرآن الكريم - تفسير ابن كثير - تفسير سورة الواقعة. ﴿ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ﴾ هؤلاء الأقوام أكثروا ظلم الناس وكثرة الأنام وسفك الدماء. ﴿ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ﴾ فأكثروا في البلاد الفساد.