قوله تعالى: والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار قوله تعالى: والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ظاهر في صلة الأرحام ، وهو قول قتادة وأكثر المفسرين ، وهو مع ذلك يتناول جميع الطاعات. " ويخشون ربهم " قيل: في قطع الرحم. وقيل: في جميع المعاصي.
" ويخافون سوء الحساب " ، سوء الحساب الاستقصاء فيه والمناقشة; ومن نوقش الحساب عذب. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: [ ص: 271] معنى. " يصلون ما أمر الله به " الإيمان بجميع الكتب والرسل كلهم. الحسن: هو صلة محمد - صلى الله عليه وسلم -. ويحتمل رابعا: أن يصلوا الإيمان بالعمل الصالح; " ويخشون ربهم " فيما أمرهم بوصله ، " ويخافون سوء الحساب " في تركه; والقول الأول يتناول هذه الأقوال كما ذكرنا ، وبالله توفيقنا. قوله تعالى: والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم قيل: " الذين " مستأنف; لأن صبروا ماض فلا ينعطف على " يوفون " وقيل: هو من وصف من تقدم ، ويجوز الوصف تارة بلفظ الماضي ، وتارة بلفظ المستقبل; لأن المعنى من يفعل كذا فله كذا; ولما كان الذين يتضمن الشرط ، والماضي في الشرط كالمستقبل جاز ذلك; ولهذا قال: الذين يوفون ثم قال: والذين صبروا ثم عطف عليه فقال: ويدرءون بالحسنة السيئة.
تفسير: (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار)
جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار جنات عدن بدل من عقبى الدار ، والعدن: الاستقرار. وتقدم في قوله ومساكن طيبة في جنات عدن في سورة براءة. وذكر يدخلونها لاستحضار الحالة البهيجة. والجملة حال من جنات أو من ضمير لهم عقبى الدار ، والواو في ومن صلح من آبائهم واو المعية وذلك زيادة الإكرام بأن جعل أصولهم وفروعهم وأزواجهم المتأهلين لدخول الجنة لصلاحهم في الدرجة التي هم فيها; فمن كانت مرتبته دون مراتبهم لحق بهم ، ومن كانت مرتبته فوق مراتبهم لحقوا هم به ، فلهم الفضل في الحالين. وهذا كعكسه في قوله تعالى احشروا الذين ظلموا وأزواجهم الآية; لأن مشاهدة عذاب الأقارب عذاب مضاعف. وفي هذه الآية بشرى لمن كان له سلف صالح أو خلف صالح أو زوج صالح ممن تحققت فيهم هذه الصلات أنه إذا صار إلى الجنة لحق بصالح أصوله أو فروعه أو زوجه. وما ذكر الله هذا إلا لهذه البشرى كما قال الله تعالى والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء. [ ص: 132] والآباء يشمل الأمهات على طريقة التغليب كما قالوا: الأبوين.
القرآن الكريم - تفسير القرطبي - تفسير سورة الرعد - الآية 24
وقيل: على الفقر في الدنيا; قاله أبو عمران الجوني. وقيل: على الجهاد في سبيل الله; كما روي عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل تدرون من يدخل الجنة من خلق الله ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم; قال: المجاهدون الذين تسد بهم الثغور وتتقى بهم المكاره فيموت أحدهم وحاجته في نفسه لا يستطيع لها قضاء فتأتيهم الملائكة فيدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. وقال محمد بن إبراهيم: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول: السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان; وذكره البيهقي عن أبي هريرة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي الشهداء ، فإذا أتى فرضة الشعب يقول: السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. ثم كان أبو بكر بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله ، وكان عمر بعد أبي بكر يفعله ، وكان عثمان بعد عمر يفعله. وقال الحسن البصري - رحمه الله -: بما صبرتم عن فضول الدنيا. وقيل: بما صبرتم على ملازمة الطاعة ، ومفارقة المعصية; قال معناه الفضيل بن عياض. ابن زيد: بما صبرتم عما تحبونه إذا فقدتموه. ويحتمل سابعا - بما صبرتم عن اتباع الشهوات.
تفسير القرآن الكريم