وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) قوله تعالى: وما بكم من نعمة فمن الله قال الفراء. ما بمعنى الجزاء. والباء في بكم متعلقة بفعل مضمر ، تقديره: وما يكن بكم. من نعمة أي صحة جسم وسعة رزق وولد فمن الله. وقيل: المعنى وما بكم من نعمة فمن الله هي. ثم إذا مسكم الضر أي السقم والبلاء والقحط. فإليه تجأرون أي تضجون بالدعاء. يقال: جأر يجأر جؤارا. والجؤار مثل الخوار; يقال: جأر الثور يجأر ، أي صاح. وقرأ بعضهم " عجلا جسدا له جؤار "; حكاه الأخفش. وجأر الرجل إلى الله ، أي تضرع بالدعاء. وقال الأعشى يصف بقرة: فطافت ثلاثا بين يوم وليلة وكان النكير أن تضيف وتجأرا
تفسير آية (وما بكم من نعمة فمن الله) - موضوع
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله ( فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) قال: تضرعون دعاء. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: الضُّرُّ: السُّقْم. ------------------------الهوامش:(12) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (1: 173) عند قوله تعالى: (وما بكم من نعمة فمن الله. قال: ما: في معنى جزاء، ولها فعل مضمر، كأنك قلت: ما يكن بكم من نعمة فمن الله؛ لأن الجزاء لا بد له من فعل مجزوم، إن ظهر فهو جزم، وإن لم يظهر فهو مضمر، كما قال الشاعر: "إن العقل.. " البيت. أراد: إن يكن، فأضمرها. ولو جعلت " ما بكم " في معنى "الذي": جاز ، وجعلت صلته "بكم"، والذي حينئذ: في موضع رفع، بقوله "فمن الله". وأدخل الفاء، كما قال تعالى: (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم).
ما بمعنى الجزاء. والباء في بكم متعلقة بفعل مضمر ، تقديره: وما يكن بكم. من نعمة أي صحة جسم وسعة رزق وولد فمن الله. وقيل: المعنى وما بكم من نعمة فمن الله هي. ثم إذا مسكم الضر أي السقم والبلاء والقحط. فإليه تجأرون أي تضجون بالدعاء. يقال: جأر يجأر جؤارا. والجؤار مثل الخوار; يقال: جأر الثور يجأر ، أي صاح. وقرأ بعضهم " عجلا جسدا له جؤار "; حكاه الأخفش. وجأر الرجل إلى الله ، أي تضرع بالدعاء. وقال الأعشى يصف بقرة:فطافت ثلاثا بين يوم وليلة وكان النكير أن تضيف وتجأرا
﴿ تفسير الطبري ﴾
اختلف أهل العربية في وجه دخول الفاء في قوله ( فَمِنَ اللَّهِ) فقال بعض البصريين: دخلت الفاء، لأن " ما " بمنزلة " من " فجعل الخبر بالفاء. وقال بعض الكوفيين: " ما " في معنى جزاء، ولها فعل مضمر، كأنك قلت: ما يكن بكم من نعمة فمن الله، لأن الجزاء لا بدّ له من فعل مجزوم، إن ظهر فهو جزم، وإن لم يظهر فهو مضمر ، كما قال الشاعر:إنِ العَقْلُ في أموَالِنا لا نَضِقْ بِهِذِرَاعًا وَإنْ صَبْرًا فنَعْرِفُ للصَّبْرِ (12)وقال: أراد: إن يكن العقل فأضمره. قال: وإن جعلت " ما بكم " في معنى الذي جاز ، وجعلت صلته بكم و " ما " في موضع رفع بقوله ( فَمِنَ اللَّهِ) وأدخل الفاء ، كما قال إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ وكل اسم وصل مثل من و ما و الذي، فقد يجوز دخول الفاء في خبره لأنه مضارع للجزاء والجزاء قد يجاب بالفاء، ولا يجوز أخوك فهو قائم، لأنه اسم غير موصول، وكذلك تقول: مالك لي، فإن قلت: مالك، جاز أن تقول: مالك فهو لي، وإن ألقيت الفاء فصواب.
&Quot; وما بكم من نعمة فمن الله &Quot;
والقصور والتقصير في باب النعم عمى في البصيرة ووسوسة من الشيطان: ( ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ)[الأعراف: 17]. ويغفُل المسلمُ عن إدراك نِعَمِ اللهِ، بل ويزدريها حين ينظر إلى ما في أيدي الآخرين، قال صلى الله عليه وسلم: " انظروا إلى مَنْ هو أسفلَ منكم، ولا تنظروا إلى مَنْ هو فوقَكم، فهو أجدرُ ألَّا تَزْدَرُوا نعمةَ اللهِ عليكم "(متفق عليه). وما أذنبَ عبدٌ ذنبًا إلا زالَت عنه نعمةٌ بحسب ذلك الذنبِ؛ قال ابنُ القيم: "المعاصِي نارُ النعَم تأكلُها كما تأكُلُ النارُ الحَطَبَ". إِذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا *** فَإِنَّ الذُّنُوبَ تُزِيلُ النِّعَمْ
وَحُطْهَا بِطَاعَةِ رَبِّ الْعِبَادِ *** فَرَبُّ الْعِبَادِ سَرِيعُ النِّقَمْ
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفِر اللهَ لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية:
الحمد لله جلَّ في علاه، أحمده سبحانه وأشكره، على ما أنعَم به علينا وأسداه، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسولُه ومجتباه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وَمَنْ والاه.
وإذا أقرَّ المسلمُ بنعم اللهِ أظهَر هذه النعمَ، تعظيمًا للمنعِم، شاكرًا حامدًا لا مُفاخِرًا ولا متكَبِّرًا،) ﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾ [الضحى: 11]. وأمَّا مَنِ اغتَرَّ بنفسه وأُعجب بما وهَبَه اللهُ مِنَ النعمِ، فنَسَبَها إلى نفسه، فإن النعمة في حقه نقمة، والخير شر، والعافية بلاء، ففرعون قال: ﴿ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الزخرف: 51] ، وكذلك قال قارون: ﴿ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ﴾ [القصص: 78]. وأعظمُ الشكرِ المبادَرةُ إلى العبادة:) ﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الزمر: 66] ، والعبد مهما اجتهد، فلن يحيط أداءَ حقِّ شكرِ النعمِ، وحسبُه السعيُ إلى بلوغ مرضاة الله. ومن أسباب دوامِ النعم دعاء الله ليُبقِيَها، قال صلى الله عليه وسلم: " اللهم إني أعوذُ بك من زوال نعمَتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتِك، وجميع سخَطك "؛ رواه مسلم. ومن شُكرِ النعم حمدُ الله عليها؛ قال صلى الله عليه وسلم: " إن اللهَ ليرضَى عن العبد أن يأكلَ الأكلَةَ فيحمَده عليها، أو يشربَ الشربةَ فيحمدَه عليها "؛ رواه مسلم، كان صلى الله عليه وسلم إذا أوَى إلى فراشه يحمدُ ربَّه على النِّعَم، ويتذكَّرُ من حُرِمَها، فكان صلى الله عليه وسلم إذا أوَى إلى فراشِه قال: "الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافِيَ له ولا مُؤوِي "؛ رواه مسلم، وكان يقول في صباحه ومسائه: " اللهم ما أصبحَ بي من نعمةٍ أو بأحدٍ من خلقِك، فمنك وحدَكَ لا شريكَ لك، فلك الحمدُ ولك الشُّكرُ "؛ رواه أبو داود.
خطبة: وما بكم من نعمة فمن الله
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم بين- سبحانه- أن كل نعمة في هذا الكون، هو- سبحانه- مصدرها وموجدها، فقال: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ... أى: وكل نعمة عندكم كعافية في أبدانكم، ونماء في مالكم، وكثرة في أولادكم، وصلاح في بالكم.. فهي من الله- تعالى- وحده. فالمراد بالنعمة هنا النعم الكثيرة التي أنعم بها- سبحانه- على الناس، لأنه لم يقم دليل على أن المراد بها نعمة معينة، وعلماء البيان يعدون استعمال المفرد في معنى الجمع- اعتمادا على القرينة- من أبلغ الأساليب الكلامية، و «ما» موصولة مبتدأ، متضمنة معنى الشرط. وقوله «فمن الله» خبرها. وقوله «من نعمة» بيان لما اشتملت عليه «ما» من إبهام. وقوله- سبحانه- ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ. ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ، إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ بيان لطبيعة الإنسان، ولموقفه من خالقه- عز وجل- والضر: يشمل المرض والبلاء والفقر وكل ما يتضرر منه الإنسان. وقوله «تجأرون» من الجؤار بمعنى- رفع الصوت بالاستغاثة وطلب العون، يقال: جأر فلان يجأر جأرا وجؤارا، إذا رفع صوته بالدعاء وتضرع واستغاث وأصله: صياح الوحش. ثم استعمل في رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة.
قال المفسرون: هذا بعملي، وأنا محقوق به. وقال ابن عباس: يريد من عندي. وقد ذم الله تعالى من ينسب النعمة لنفسه بقوله تعالى: ( قال إنما أوتيته على علم عندي) قال قتادة: على علم مني بوجوه المكاسب. وهذه النصوص توضح أن نسبة الفضل إلى النفس -ومن ذلك الشفاء- من كفر النعمة وجحدها وموجب لزوالها. ومن مقتضى تحقيق التوحيد نسبة النعم كلها لله تعالى لا سيما الشفاء من المرض الذي قال الله تعالى فيه: (وإذا مرضت فهو يشفين) والنجاة من الهلاك الذي قال الله تعالى فيه: (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين * قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون). لو تأمل العاقل في الأسباب التي يتصور أنها تجلب النعم له لعلم أنها أسباباً منها الصحيح ومنها الوهمي، فأما الأسباب الصحيحة فهي من فضل الله، ولو شاء الله نفع بها، ولو شاء لسلبها النفع، ومع ذلك فلا يجوز نسبة النعمة لها حتى ولو كانت صحيحة، وإنما تنسب النعمة لله تعالى وحده لا شريك له، لأنه هو مسببها سبحانه، وأما إن كانت الأسباب وهمية فنسبة النعمة لها أشد، وهو إما شرك أصغر أو أكبر بحسب اعتقاد صاحبه، فإن اعتقد أنها سبب لجلب النعمة فهو شرك أصغر، وإن اعتقد أنها هي التي تجلب النعمة فهو شرك أكبر.