وما زالت الهِمّة، ترافق الشعراء، من جيل إلى جيل، حتى نظر مصطفى صادق الرافعي (ت 1937)، إلى الهِمّة نظرة فلسفية، أوجزها ببيت واحد، وما أعجب الشعرَ حين يختزل المعاني الكبيرة، في كلمات قصيرة! : إذا كان قلبي لا يُصاحبُ هِمَتِي فما هْوَ لِي قَلبٌ، ولا أنا صاحبُه! الهمة العالية. فالهِمّة العالية، أرقى من أن يصلَها من استسلم للهوى، وارتهن للدعة، وأدمنَ الكسل. نقل ابن حمدون، في تذكرته، عن بعض الحكماء، قولهم: ذو الهِمّة وإن حَطَّ نفسه، تأبى إلا العلو، كالشعلة من النار يخفيها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعاً. وقيل: أسوأ الناس من اتسعت معرفتُه وضاقت مقدرتُه وبعدت هِمَّتُهُ، أخذ ذلك المتنبي، فقال: وَأَتعَبُ خَلقِ اللَهِ مَن زادَ هَمُّهُ وَقَصَّرَ عَمّا تَشتَهي النَفسُ وجدُهُ وللهِمّة أنفة، ولأبي الغمر الطبري (ت 230 هـ): وهِمّة نَبُلَت عن أن يُقال لها: كأنها، وتَعَالت عن مَدَى الهِمم ومع أنَّ عصرَنا تزدحم به الملهيات، فتُشغِل عن طلب المهمات، إلا أنَّ فيه من وسائل التعلم، وأدوات التطور، ما يُشبع أصحاب الهِمم العلية، مما لم يتوفر في زمن آخر، و«من جَدَّ وجد»؛ و«المرء تابع لهمته»، كما تقول العرب. ولا يرتفع بالمرء مثل هِمّة عالية، يخوض بها غِمار التحديات، وتتجاوز به الصعاب والملمَّات، فتضعه بين الكبار، وترتقي به، حتى يقبض بين راحتيه سعادة المنجزات، وينال أعالي المرتبات.
الهمة العالية
فيا ترى، ما الذي أوصلَ هذا الجيلَ إلى هذا المستوى؟ وما الأسبابُ التي جعلت منه خاويَ الهمةِ، ضعيف التحصيل، مشتت الفكر، يحتلُّ آخرَ المراتبِ بين الأممِ والشعوبِ. إنها - بلا شكٍّ - قضيةٌ مصيريةٌ، يجب الوقوفُ على أسبابها، ومعرفةُ الحلولِ المناسبةِ لها، فضعفُ الهممِ لدى الطلابِ هو ما تُعاني منه الأمةُ اليومَ، فالأمةُ تملكُ مقوماتِ النهوضِ جميعَها، الماديةَ والمعنويةَ، ولكنها تفتقرُ إلى أصحابِ الهممِ العاليةِ، والأفكار النيرة، والطموحات العالية، الذين يأخذون بأيديها إلى سُلَّمِ المجد، ويرفعونها إلى مراتبِ القيادةِ، التي كانت متربعةً عليها في عصور سابقة.
يقول عمارة اليمني:
إن كبرت سني فلي همة لم يتأثر فضلها بالكبر ما ضرني غدر الليالي. وقد وفَّى لي السمع ونور البصر، ولا خبا مصباح ذكري، ولي فكر سليم ولسان ذكر.