الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فقد أسبغَ اللهُ -تعالى- علينا نِعَمَه ظاهرةً وباطنةً، ومن أجلِّ النِّعم –بعد نعمة الإسلام– نِعْمَةُ الصحة والعافية، والسلامةُ من كلِّ ما يُكدر العيش؛ من الآلام والأسقام والأحزان. والصحة تاجٌ على رؤوس الأصِحَّاء لا يعرفها إلاَّ المرضى، ولكن الناس لِطُولِ إِلْفِهِم للصحة والعافية لا يشعرون بها، ولا يقدرونها حقَّ قدرها، وفي خِضَمِّ الأحداث الجارية، وانتشارِ الوباء العام "كورونا" تَنَبَّه الناسُ لِنِعمَةِ العافية؛ خشيةَ أنْ تُسْلَبَ منهم بغتة، ولنتأملْ كيف تعطَّلَتْ مَصالِحُ الدول والأفراد خوفاً من انتشار هذا الوباء، فلو أُصيب الإنسانُ بمرضٍ فإنه لا يجد طعمَ الحياة؛ بل لا يستطيع القيامَ بأمور الحياة على الوجه المطلوب، وربما يتمنَّى البعضُ الموتَ هرباً من آلام المرض، نسأل الله العفو والعافية. الحمد لله على العافية والصحة العالمية. ومن أعظم النِّعم نعمة العافية، التي لا تَطِيبُ الحياةُ إلاَّ بها؛ لذا قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: " مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا "(رواه الترمذي)؛ فالدنيا بحذافيرها لا تَطِيبُ إلاَّ بالأمن والعافية.
الحمد لله على العافية والصحة العالمية
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
عباد الله: من أعظم أسباب الصحة والعافية: أنْ يعرف المسلمُ عِظَمَ قَدْرِ العافية، ويسعى في اغتنام العمر؛ لأنه قصير، يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: " اغْتَنِمْ خَمْساً قبْلَ خَمْسٍ: حَياتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وفَراغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وشَبابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ "(رواه الحاكم). وقال -عليه الصلاة والسلام-: " نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ؛ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ "(رواه البخاري). ويومَ القيامةِ يُسألُ الإنسانُ عن صِحَّةِ جسمه؛ كما في قوله -صلى الله عليه وسلم-: " أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ أُصِحَّ جِسْمَكَ، وَأَرْوِكَ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ ؟ "(رواه ابن حبان والحاكم). الحمد لله على العافية والصحة من حقوق المواطن. ومن أسباب الصحة والعافية: الاشتغال بطاعة الله -تعالى-: قال ابن القيم -رحمه الله-: "ولا رَيْبَ أنَّ الصلاةَ نفسَها فيها من حِفظِ صحة البدن، وإذابةِ أخلاطِه وفضلاته، ما هو من أنفع شيءٍ له، سوى ما فيها مِن حِفظِ صِحَّةِ الإيمان، وسعادةِ الدنيا والآخرة، وكذلك قيامُ الليل مِن أنفع أسبابِ حفظِ الصحة، ومن أمنعِ الأُمور لكثيرٍ من الأمراض المُزمنة، ومن أنشطِ شيءٍ للبدنِ والرُّوحِ والقلب".
الحمد لله على العافية والصحة خامس
ما كُلّفت أنتَ بعمله! وما يحتاجُ إلى صِيانةٍ! وهذه الأجزاء التي تعيش مع كثير من النّاس الخمسين والسّتّين والسّبعين؛ بل ربّما أكثَر من ذلك! وهي لم تتغيّر؛ وذلكَ مَن عوفيَ؛ فليَحمدِ الله. عافية في أنّك تُحسُّ بالحارّ بحرارته، والبارد ببرودتهِ، العافية أنّك تشُمّ. أذكُر رجلًا كبيرًا في السّنّ فقد حاسّة الشّمّ، وفقدَ الإحساس في أطرافه إثر مرضٍ أصابهُ. اشتعلت البطّانيّة التي يتغطّاها في الشّتاء من أطرافِ المدفأة (الدّفّاية) فاشتعلت فلم يشمّ الرّائحة، وأصابَت أقدامه ولم يحسُّ بذلك! حتّى وَصلت إلى السّاق فأحسّ! هل تأمّلت هذه النّعمة؟! أنتَ تجلِس في بيتك فتشُمّ رائحة الغاز فتنهَض، أو تُنبّه، تشمّ رائحة الكهرباء فتُنبّه، تشمّ رائحة نارٍ تنتبِه لهذا. رسائل الحمد لله على السلامة |. العافية في أنّك ترى. حضر أحدُ المشايخ – وهو كفيف البَصر – حَضر حفل تخريجٍ حفظة – حفظة من حفظ القرآن – فلمّا تكلّمَ بكى! قال: ما تمنّيتُ أنّني أرى؛ إلاّ مرّتين: في هذه اللّيلة لأرى هؤلاء الحفظة، ولمّا قرأتُ في أحد الأيّام: { أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] تمنّيتُ أنّني أرى لأرى هذا الخَلق العَجيب الذي أمرَ الله عزّ وجلّ بالتّفكُّر فيه.
ولذلكَ قبل غزوةٍ من الغزوات أعلنَ في النّاس من كان لهُ مظلمة قبل هذه الغزوة - من كان لهُ مظلمة - فليأتِ إليّ؛ فجاءه رجُلٌ وقال: يا رسول الله أنتَ ضَربتني بقَضيبٍ على خاصِرتي؛ فقال لهُ النّبيّ عليه الصّلاة والسّلامُ: « دونكَ فاقتصّ » [10] – خُذ.. خُذ حقّك في الدُّنيا – فقالَ: يا رسول الله أنتَ ضربتني بالقضيب وليس عليّ رِداء – مُباشرةً – فرفع النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام رداءهُ وقال: « دونَكَ » فأكبّ الرجُلّ على النّبيّ عليه الصّلاةُ والسّلام وقال: إنّما أردتُ أن أقبّلَ جسمكَ من غَير أن يكون عليك ثيابٌ! قال: لعلّي لا ألقاكَ بعدَ يومي هذا. فهذا من العافية أن تتحلّل من النّاس في الدُّنيا قبلَ الآخِرةَ. ولذلك يقول النّبيّ عليه الصّلاةُ والسّلام كما عند البُخاري: « مَن كان لهُ عند أخيه مظلمةٌ من عِرضٍ أو شيء؛ فليَتحلّل منه اليوم قبل ألا يكونُ دينارٌ ولا درهم » [11]. الحمد لله على العافية والصحة خامس. - قبل ألا يكونُ دينارٌ ولا درهم - لأنّهُ يوم القيامة ليسَ هُناك إلاّ الحسنات والسّيّئات - ليسَ هُناك إلاّ الحسنات والسّيّئات – في هذا يقولُ النّبيّ عليه الصّلاةُ والسّلامُ في صحيح مُسلم: « لتؤدّنّ الحُقوق إلى أهلها، حتّى يُقاد – يعني يُقتصّ - للشّاة الجَلحاء من الشّاةِ القَرناء » [12].