كلما بعدت الأمة عن منهج النبوة، وكلما تقادم عهد منابع الدين النقية الصافية وقعت في هوة سحيقة من الجمود والتخلف والضعف، وهذه الأدواء كلها تطيح بالأمة عن مقدمة الركب إلى ذيلة، وهذا ظاهر في فترات ضعف الأمة؛ حيث ترى العديد من السمات والظواهر لتلك الفترات: فترى انتشارًا للخرافات والبدع، وترى جمودًا عمليًا، وتقليدًا أعمي، وركودًا فكريًا، وتعصبًا مذمومًا، وترى أو السنة قد أصبحت بدعة، والبدعة أصحبت سنة، ويصبح الاجتهاد والتجديد تهمة خطيرة يستحق صاحبها النفي والقتل والتنكيل حتى يكون عبرة لغيره ممن تسول له نفسه أن يجتهد، أو يجدد، أو يصلح من أمور المسلمين. التعريف به:
هو الإمام الكبير، العالم المفسر المحدث، علامة الشام، المجدد المجتهد، صاحب التصانيف الكثيرة الباهرة، العلامة الشيخ أبو الفرج محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم بن صالح بن إسماعيل بن أبي بكر المعروف بالقاسمي نسبة إلى جده قاسم الملقب بالحلاق.
القاسمي، جمال الدين - المكتبة الشاملة
يقول في كتابه الاستئناس [ص 44]: (وإن الحق ليس منحصراً في قول، ولا مذهب، وقد أنعم الله على الأمة بكثرة مجتهديها). وفى كتاب إرشاد الخلق [ص 4]: يقول: (وإن مراد الإصلاح العلمي بالاجتهاد ليس القيام بمذهب خاص والدعوة له على انفراد، وإنما المراد إنهاض رواد العلم، لتعرف المسائل بأدلتها). القاسمي، جمال الدين - المكتبة الشاملة. ونحن اليوم في عصر قد كثر فيه الخلاف، وذهبت فيه العقول منازل كثيرة، ما أحوجنا إلى نبذ التعصب، وتحرير العقل من الهوى، والسعي وراء الأدلة الصحيحة، فندور حيث دارت، ونتمسك بها ولا ننتصر لرأي ذاتي فربما كان خطأ أو صواباً. أخذ القاسمي العلوم عن كثير من المشايخ أمثال: الشيخ سليم العطار، قرأ عليه شرح الشذور، وابن عقيل، وجمع الجوامع، وتفسير البيضاوي، وسمع منه دروساً من صحيح البخاري دراية، والموطأ، ومصابيح السنة. وقرأ على الشيخ بكري العطار، والشيخ محمد الخاني، ووالده الشيخ محمد سعيد القاسمي، وكان يحضر دروس الشيخ عبد الرزاق البيطار، مجدد مذهب السلف في الشام، وقد استفاد منه الشيء الكثير. وكان جميع أساتذته من المعجبين بذكائه ونباهته، يتوقعون له مستقبلاً مشرفاً، ويتطلعون إلى ما يتحقق على يديه من نهضة عظيمة لمنطقة أحوج ما تكون إلى الدعاة الذين يدعون إلى الله وفق أصول أصيلة في العقيدة والمنهج والتصور.
جمال الدين الإسنوي - مكتبة نور
وقد ذكر الدكتور نزار أباظة في كتابه عن القاسمي 113 عنواناً من مؤلفات القاسمي رحمه الله ، مابين مطبوع ومخطوط و ما بين كتاب كبير يشتمل على مجلدات كثيرة ورسائل صغيرة قليلة الصفحات. من أشهر مؤلفاته رحمه الله
محاسن التأويل وهو تفسير للقرآن الكريم ، دلائل التوحيد ، إصلاح المساجد من البدع والعوائد ، قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث ، شذرة من السيرة النبوية ، رسالة الاستئناس لتصحيح أنكحة الناس ، كتاب المسح على الجوربين ، تعطير المشام في مآثر دمشق الشام ، حياة البخاري ، شمس الجمال على منتخب كنز العمال ، ميزان الجرح والتعديل ، موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين ،جوامع الآداب في أخلاق الأنجاب. من بليغ كلامه
- الحق يصرع إذا عُمِدَ إلى إظهاره بالسباب والشتائم. - أحكام الباطل مؤقتة لا ثبات لها في ذاتها ، وإنما بقاؤها في نوم الحق عنها ، وحكم الحق هو الثابت لذاته ، فلا يغلب أنصاره ما داموا معتصمين به. - التبذير في أشرف الأغراض قصد واعتدال. جمال الدين الإسنوي - مكتبة نور. -التقليد جذام فشا بين الناس ، و أخذ يفتك فيهم فتكاً ذريعاً ، بل هو مرض مريع وشلل عام وجنون ذهولي ، يوقع الإنسان في الخمول والكسل. - الذكاء كالشرارة الكامنة في الزناد ، لا تظهر إلا بالقدح ، فإذا لم تحتك الأفكار بالعلوم مات ذلك النشاط والذكاء في مكامنه وانزوى في زوايا الصدور.
كان العلامة القاسمي معنيًا بأحوال الأمة الإسلامية، يسوءُه ما يراه من تدهورها وتراجعها أمام أعدائها، وبالأخص كانت تسوءه الحالة المزرية التي وصلت إليها الأوضاع الدينية والعلمية ببلاد الإسلام، وذلك الجمود والتحجر الذي أصابها، ومهد السبيل معه لدخول البدع والخرافات والتعصب والتفرق، فبدأ دعوته الشهيرة لنبذ التعصب والتقليد، وتنقية العقيدة من الدخن الذي أصابها، ودعا الناس للعودة إلى منابع الدين الأولى بصفائها ونقائها، كما دعا إلى فتح باب الاجتهاد من جديد بعد أن أغلقه المتفقهة والمتعصبة، وسدنة المذاهب بأقفال كبيرة منذ سنوات بعيدة، ووقفوا على باب التقليد مدافعين ومنافحين بكل ما أوتوا من قوة. كان القاسمي صاحب عقل نير، وفكر وفهم ناضج، استفاد من قراءته التاريخية لسير المجددين والمجتهدين؛ فعمل على تكوين جبهة متحدة ممن هو على شاكلته من أهل العلم الغيورين المصلحين، فأنشأ جمعية المجتهدين مع زملائه: عبدالرازق البيطار، وسعيد الفرا، ومصطفى الحلاق، وغيرهم، وعقدت الجمعية حلقات بحث دورية لقراءة ومناقشة أهم الكتب، والتباحث في أحوال المسلمين، وسبل النهوض بهم.