والنسخ لا يدخل إلا الأحكام ، فلا يدخل النسخ على الأخبار وهو مذهب جمهور أهل العلم ، ولم ينكر النسخ إلا طوائف متأخرة ممن ينتسب إلى الإسلام وهؤلاء محجوحون بقوله تعالى: ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها)[ البقرة: 106] وقوله تعالى:({وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر)[ النحل: 101]. فهاتان الآيتان صريحتان في وجود النسخ في القرآن ، وقد أجمع السلف على وجود النسخ ، وهذا الإجماع لا يضره ما ورد بعده من خلاف ممن لا يعتد بمخالفتهم. وللنسخ فوائد منها إظهار امتثال العباد أوامر الرب جل وعلا ، ومنها التخفيف على العباد وهذا الغالب ، ومنها كذلك التدرج في الأحكام كنسخ الأحكام التي أباحت بعض الأمور التي كان عليها المسلمون إلى الحرمة. وقد ينسخ الأثقل إلى الأخف والأخف إلى الأثقل كنسخ صيام يوم عاشوراء والأيام المعدودة برمضان ، وينسخ المثل بمثله نقلاً وخفة كالقبلة ، وينسخ الشيء لا إلى بدل كصدقة النجوى ، وينسخ القرآن بالقرآن والسنة ، وحذاق الأئمة على أن السنة نسخ بالقرآن كذلك كما في قوله تعالى: ( فلا ترجعوهن إلى الكفار) [ الممتحنة: 10]. فإن رجوعهن إنما كان بصلح النبي صلى الله عليه وسلم لقريش.
النسخ في القرآن الكريم
ونَسْخُ وجوب صيام يوم عاشوراء الثابت بالسنة، بصوم رمضان في قوله تعالى: { فمن شهد منكم الشهر فليصمه} (البقرة:185). ومن أنواع النسخ أيضاً، نَسْخُ السنة بالسنة، ومنه نسخ جواز نكاح المتعة، الذي كان جائزًا أولاً، ثم نُسخ فيما بعد؛ فعن إياس بن سلمة عن أبيه، قال: (رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثم نهى عنها) رواه مسلم، وقد بوَّب البخاري لهذا بقوله: باب نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة آخراً. ويأتي النسخ في القرآن على ثلاثة أنحاء: الأول: نسخ التلاوة والحكم معًا، ومثاله حديث عائشة قالت: كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات يحُرمن، ثم نُسخن بخمس معلومات) رواه مسلم. الثاني: نسخ الحكم وبقاء التلاوة، ومثاله قوله تعالى: { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين} (الأنفال:66) فهذه الآية نسخت حكم الآية السابقة لها مع بقاء تلاوتها، وهي قوله تعالى: { يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون} (الأنفال:65).
النسخ في القران الكريم لمصطفى زيد
الحمد لله. أولا:
النسخ في الاصطلاح: رفع حكم دليل شرعي ، أو لفظه ، بدليل من الكتاب أو السنة. والنسخ ثابت في الكتاب والسنَّة ، قال الله تعالى: ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ
أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٍ) البقرة / 106. والمقصود بالنسخ في هذه
الآية الكريمة هو نسخ الآيات القرآنية ، لا نسخ الآيات الكونية والمعجزات الربانية
، ويدل على ذلك عدة أمور:
1- أن هذا هو الذي عليه أهل العلم قاطبة ، ولا نعلم أحدا قال بأن النسخ في الآية
إنما هو للآيات الكونية أو المعجزات. قال ابن الجوزي رحمه الله:
" بَابُ إِثْبَاتِ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَنْسُوخًا:
انْعَقَدَ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى هَذَا إِلا أَنَّهُ قَدْ شَذَّ مَنْ لا
يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ فَحَكَى أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا:
لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَاسِخٌ وَلا مَنْسُوخٌ. وَهَؤُلاءِ خَالَفُوا نَصَّ
الْكِتَابِ، وَإِجْمَاعَ الأُمَّةِ قَالَ الله عزوجل: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ
أَوْ نُنْسِهَا) " انتهى من " نواسخ القرآن " (ص 15). وانظر "تفسير ابن كثير" (1/ 375) ، "زاد المسير" (1/ 98) ، "تفسير القرطبي" (2/61)
2- قوله تعالى: ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ) النحل/ 101 ، قَالَ قَتَادَةُ: هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا
نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا) الْبَقَرَةِ/106.
وتفصيل هذا: أن النوع الإنساني تقلب كما يتقلب الطفل في أدوار مختلفة، ولكل دور من هذه الأدوار حال تناسبه غير الحال التي تناسب دوراً غيره، فالبشر أول عهدهم بالوجود كانوا كالوليد أول عهده بالوجود سذاجة، وبساطة، وضعفاً، وجهالة، ثم اخذوا يتحولون من هذا العهد رويداً رويداً، ومروا في هذا التحول أو مرت عليهم أعراض متبانية، من ضآلة العقل، وعماية الجهل، وطيش الشباب، وغشم القوة على التفاوت في هذا بينهم، اقتضى وجود شرائع مختلفة لهم تبعاً لهذا التفاوت. حتى إذا بلغ العالم أوان نضجه واستوائه، وربطت مدنيته بين أقطاره وشعوبه، جاء هذا الدين الحنيف ختاماً للأديان ومتمماً للشرائع، وجامعاً لعناصر الحيوية ومصالح الإنسانية و مرونة القواعد، جمعاً وفَّقَ بين مطالب الروح والجسد، وآخى بين العلم والدين، ونظم علاقة الإنسان بالله وبالعالم كله من أفراد، وأسر، وجماعات، وأمم، وشعوب، وحيوان، ونبات، وجماد، مما جعله بحق ديناً عاماً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. 2- ومن الحكم أيضاً التخفيف والتيسير: مثاله: إن الله تعالى أمر بثبات الواحد من الصَحابَة للعشرة في قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [ الأنفال:65] ثم نسخ بعد ذلك بقوله تعالى:{الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:66] فهذا المثال يدل دلالة واضحة على التخفيف والتسير ورفع المشقة، حتى يتذكر المسلم نعمة الله عليه.