وعلامة هذا الإيثار شيئان: الأول:فعل ما يحب الله إذا كانت النفس تكرهه وتهرب منه. الثاني:ترك ما يكرهه الله إذا كانت النفس تحبه وتهواه. فبهذين الأمرين يصح مقام الإيثار. ومؤنه هذا الإيثار شديدة؛ لغلبة الأغيار، وقوة داعي العادة والطبع، ولا تتم سعادة العبد وفلاحه إلا به، وإنه ليسير على من يسره الله عليه. فحقيق بالعبد أن يسمو إليه وإن صعب المرتقى، والذي يسهله على العبد أمور: أحدها:أن تكون طبيعته لينة منقادة سلسة. الثاني:أن يكون إيمانه راسخاً، ويقينه قوياً، فإن الإيثار ثمرة الإيمان. الثالث:قوة صبره وثباته. الإيثار ضد الشح والإيثار ضد الشح، فإن المؤثر على نفسه تارك لما هو محتاج إليه، والشحيح حريص على ما ليس بيده، فإذا حصل بيده شيء شح به، وبخل بإخراجه. ويؤثرون علي انفسهم ولو كان بهم. فالبخل ثمرة الشح، والشح يأمر بالبخل كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ" أخرجه مسلم. وقد وصف الله عزَّ وجلَّ الأنصار بالإيثار، وأخبرهم أنهم سيلقون بعده أثرة فليصبروا كما قال - صلى الله عليه وسلم - للأنصار: «إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي، وَمَوْعِدُكُمُ الْحَوْضُ» متفق عليه.
... ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة - الراي
فذهب بها الغلام إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك. فقال: وصله الله ورحمه. ثمَّ قال: تعالي يا جارية، اذهبي بهذه السَّبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان. حتى أنقدها، فرجع الغلام إلى عمر، فأخبره فوجده قد أعدَّ مثلها لمعاذ بن جبل. ... ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة - الراي. وقال: اذهب بهذا إلى معاذ بن جبل، وتلكَّأ في البيت ساعة حتى تنظر ماذا يصنع. فذهب بها إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك. فقال: رحمه الله ووصله. وقال: يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا وبيت فلان بكذا. فاطَّلعت امرأة معاذ فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا. ولم يبق في الخرقة إلَّا ديناران فنحا بهما إليها. فرجع الغلام إلى عمر فأخبره، فسُرَّ بذلك عمر، وقال: إنَّهم إخوة بعضهم مِن بعض)
والله عزَّ وجلَّ أمر المسلمين بالمسابقة في أعمال البر والخير، والمسارعة إليها، والمنافسة فيها، والقرعة عند التزاحم عليها، وهذا ضد الإيثار بها. فلم يجعل الله الطاعات والقربات محلاً للإيثار، بل محلاً للتنافس والمسابقة، فلا يستحب الإيثار بالقربات؛ لأن الإيثار بها قد يشعر بالزهد فيها، والاستغناء عنها، وعدم الحاجة إليها. إيثار المحبوب وإيثار المحبوب نوعان:إيثار معاوضة ومتاجرة.. وإيثار حب وإرادة. فالأول:يؤثر محبوبه على غيره طلباً لحظة منه. والثاني:يؤثره إجابة لداعي محبته، فإن المحبة الصادقة تدعوه دائماً إلى إيثار محبوبه بكل ما يحب، فإيثاره هو أجل حظوظه، فحظه في نفس الإيثار، لا في العوض المطلوب بالإيثار. وهذا مطلب عال لا تفهمه إلا النفس اللطيفة المشرقة الورعة،.. ويؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة. والدين كله.. والمعاملة كلها في الإيثار، فإنه تقديم وتخصيص لمن تؤثره بما تؤثره به على نفسك، ومن آثر الله على غيره آثره الله على غيره. والنفس مجبولة على الأثرة لا على الإيثار، ولكن الذي يسهل على النفس هذا الإيثار أمور: أحدها: رغبة العبد في مكارم الأخلاق، ومعاليها، فإن من أفضل أخلاق الإنسان وأشرفها وأعلاها الإيثار، وقد جبل الله القلوب على تعظيم صاحبه ومحبته، كما جبلها على بغض المستأثر ومقته، لا تبديل لخلق الله.