والحق، أن هذه الأقوال جميعها لا تعارض بينها، وهي متقاربة من حيث المعنى، ويكفيك في هذا، أن جميع الأقوال المذكورة في المراد من هذه العبارة، قد وردت فيها آثار عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقد رجح الطبري أن أولى الأقوال بالصواب، قول من قال: هن جميع أعمال الخير؛ لأن ذلك كله من الصالحات التي تبقى لصاحبها في الآخرة، وعليها يجازى ويثاب، وإن الله عز ذكره لم يخصص من قوله: { والباقيات الصالحات} بعضاً دون بعض في كتاب، ولا بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعد أن ذكر القرطبي ترجيح الطبري ، قال: "وهو الصحيح إن شاء الله؛ لأن كل ما بقي ثوابه، جاز أن يقال له هذا. وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا - هوامير البورصة السعودية. وقال علي رضي الله عنه: الحرث حرثان، فحرث الدنيا المال والبنون؛ وحرث الآخرة الباقيات الصالحات، وقد يجمعهن الله تعالى لأقوام". ولا يعارض ما اختاره الطبري ما جاء في الحديث المتقدم، الذي خصص به الجمهور هذه العبارة المطلقة، أن (الباقيات الصالحات) هن: التكبير، والتهليل، والتسبيح، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم اعتبر هذه الأمور هن من الباقيات الصالحات، ولم يقل: هن جميع الباقيات الصالحات، ولا كل الباقيات الصالحات، وجائز أن تكون هذه باقيات صالحات، وغيرها من أعمال البر أيضاً باقيات صالحات.
وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا - هوامير البورصة السعودية
قال القرطبي: "إنما كان { المال والبنون زينة الحياة الدنيا}؛ لأن في المال جمالاً ونفعاً، وفي البنين قوة ودفعاً، فصارا { زينة الحياة الدنيا}، لكن معه قرينة الصفة للمال والبنين؛ لأن المعنى: المال والبنون زينة هذه الحياة المحتقرة، فلا تتبعوها نفوسكم". وقال أبو حيان: "كل ما كان { زينة الحياة الدنيا} فهو سريع الانقضاء؛ فـ { المال والبنون} سريع الانقضاء، ومن بديهة العقل أن ما كان كذلك، يَقْبُح بالعاقل أن يفتخر به، أو يفرح بسببه". وثمة لفتة بلاغية ذكرها ابن عاشور هنا، قال: "وتقديم (المال) على (البنين) في الذكر؛ لأنه أسبق خطوراً لأذهان الناس؛ لأنه يرغب فيه الصغير والكبير، والشاب والشيخ، ومن له من الأولاد ما قد كفاه؛ ولذلك أيضاً قُدِّم في بيت طَرَفة: فأصبحت ذا مال كثير وطاف بي بنون كرام سادة لمسود ". والباق ي ات الص ال حات خير عند ربك ثوابا وخير أ ملا …. الوقفة الثالثة: { والباقيات الصالحات}، ذكر المفسرون عدة أقوال في المراد من هذه الجملة من الآية:
فقال بعضهم: هي الصلوات الخمس. روى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (الباقيات الصالحات): الصلوات الخمس. وقال بعضهم: هي ذكر الله بالتسبيح، والتقديس، والتهليل، ونحو ذلك. روى الطبري عن الحارث مولى عثمان بن عفان ، قال: قيل لـ عثمان: ما الباقيات الصالحات؟ قال: هن: لا إله إلا الله، سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
استخرج فائدة من قوله تعالى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير املا - منبع الحلول
قال الرازي: "كل عمل أريد به وجه الله، فلا شك أن ما يتعلق به من الثواب وما يتعلق به من الأمل، يكون خيراً وأفضل؛ لأن صاحب تلك الأعمال يؤمل في الدنيا ثواب الله ونصيبه في الآخرة". وقال ابن عاشور: "إن أمل الآمل في المال والبنين، إنما يأمل حصول أمر مشكوك في حصوله، ومقصور على مدته. وأما الآمل لثواب الأعمال الصالحة، فهو يأمل حصول أمر موعود به من صادق الوعد، ويأمل شيئاً تحصل منه منفعة الدنيا ومنفعة الآخرة، كما قال تعالى: { من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} (النحل:97). تفسير قول الله : والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير املا - YouTube. الوقفة السادسة: هذه الآية الكريمة ورد لها شبيه، وذلك قوله تعالى: { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا} (مريم:76)، وقوله سبحانه: { قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا * وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا} (مريم:74). ختاماً، نشير إلى أن هذه الآية ونحوها من الآيات، لا ينبغي أن يُفهم منها الزهد التام في الدنيا، والإعراض عنها، فليس هذا المراد من الآية حقيقة، وإنما المراد منها التنبيه على أن الدنيا لا ينبغي أن تكون هي الهم الأكبر للمؤمن، ولا أن تكون الشغل الشاغل للمسلم، بل الآخرة هي الأساس، والدنيا طريق إلى الآخرة.
والباق ي ات الص ال حات خير عند ربك ثوابا وخير أ ملا &Hellip;
وخرج الترمذي أيضا عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقيت إبراهيم - عليه السلام - ليلة أسري بي فقال يا محمد أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر قال: حديث حسن غريب ، خرجه الماوردي بمعناه. وفيه - فقلت: ما غراس الجنة ؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. وخرج ابن ماجه عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر به وهو يغرس غرسا فقال: يا أبا هريرة ما الذي تغرس قلت غراسا. قال: ألا أدلك على غراس خير من هذا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر يغرس لك بكل واحدة شجرة في الجنة. وقد قيل: إن الباقيات الصالحات هي النيات والهمات; لأن بها تقبل الأعمال وترفع; قال الحسن. وقال عبيد بن عمير: هن البنات; يدل عليه أوائل الآية; قال الله - تعالى -: المال والبنون زينة الحياة الدنيا ثم قال والباقيات الصالحات يعني البنات الصالحات هن عند الله لآبائهن خير ثوابا ، وخير أملا في الآخرة لمن أحسن إليهن. يدل عليه ما روته عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخلت علي امرأة مسكينة.. الحديث ، وقد ذكرناه في سورة النحل في قوله يتوارى من القوم الآية.
تفسير قول الله : والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير املا - Youtube
[٢]
وقد تعددت أقوال علماء التفسير في الباقيات الصالحات، فقال منهم أن مقصودها هي قول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلّا الله، والله أكبر، فيما رأى آخرون أنّها الصلوات الخمس، أو الأعمال الصالحة، وهذه الباقيات الصالحات لها الجزاء وخير ما يأمله الإنسان. [٣]
حكمة تقديم المال على البنين
لم يرد عن الرسول تفسير لتقديم المال على البنين في الآية، بيد أن هناك استنتاجات لعلماء التفسير في ذلك، وأبرزها القول بأن المال في زينته أعم من الأبناء، فهو شامل لكل الأفراد وجميع الأوقات إضافة لكونه سبب في بقاء النفس، على عكس البنين فهم زينة حصرية للأباء، وذلك بعد وصولهم لصفة الأبوّة وهم سبب في بقاء النوع، كما أن المال حاجته أكثر من الأبناء، وهو زينة بحد ذاته أمّا البنين فزينتهم لا تكون إذا لم يتوفر المال، حيث أن وجود الأبناء مع قلّة المال هو ضيق في الحال. [٤]
سبب نزول الآية
تعددت أقوال المفسرين في سبب نزول الآية، فقد قال بعضهم أنّها نزلت في عيينة بن حصن والأقرع بن حابس ومن يُشابهما، حيث قالوا للرسول لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك فإن رائحتهم تؤذينا، وكان مقصدهم الفقراء من المسلمين كعمّار بن ياسر وسلمان الفارسي، فأنزل -تعالى-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ)، [٥] وما بعدها من آيات بيّن فيها سوء عاقبة الظالمين الذين تكبّروا على الفقراء وحسن آخرة المؤمنين.
ولكن خولف مقتضى الظاهر هنا، فقدم (الباقيات)؛ للتنبيه على أن ما ذُكر قبله، إنما كان مفصولاً؛ لأنه ليس بباقٍ، وهو المال والبنون. فكان هذا التقديم قاضياً لحق الإيجاز؛ لإغنائه عن كلام محذوف، تقديره: أن ذلك زائل، أو ما هو بباق، والباقيات من الصالحات خير منه". الوقفة الرابعة: {خير عند ربك ثوابا}، أي: أن الأعمال الصالحة دائمة باقية، وفعل الخيرات نافعة رافعة، وخيرات الدنيا منقرضة فانية، والدائم الباقي خير من المنقرض المنقضي. الوقفة الخامسة: {وخير أملا}، أي: خير رجاء؛ لأن صاحبها يأمل في الدنيا ثواب الله ونصيبه في الآخرة، دون ذي المال والبنين العاري من الباقيات الصالحات، فإنه لا يرجو ثواباً. قال الرازي: "كل عمل أريد به وجه الله، فلا شك أن ما يتعلق به من الثواب وما يتعلق به من الأمل، يكون خيراً وأفضل؛ لأن صاحب تلك الأعمال يؤمل في الدنيا ثواب الله ونصيبه في الآخرة". وقال ابن عاشور: "إن أمل الآمل في المال والبنين، إنما يأمل حصول أمر مشكوك في حصوله، ومقصور على مدته. وأما الآمل لثواب الأعمال الصالحة، فهو يأمل حصول أمر موعود به من صادق الوعد، ويأمل شيئاً تحصل منه منفعة الدنيا ومنفعة الآخرة، كما قال تعالى: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} (النحل:97).
فلا يليق بالعاقل أن يجعل ما هو وسيلة غاية، فإن هذا قلب للموازين، وبُعْدٌ عن سواء السبيل.