وقد ظلت هذه المؤلفات مخطوطات منسية في الخزانات ولم يتجرأ أحد على تحقيقها إلى أن عاد الشناقطة من أقصى المغرب الإسلامي حاملين مشعل العلم فتصدوا لها وحققوها ونقحوها. وأدعو القارئ الكريم للعودة إلى مقدمة أي طبعة شاء من كتاب "القاموس المحيط" للفيروزآبادي وسيجد أنها من تحقيق الشيح محمد محمود ولد التلاميد التركزي الشنقيطي. كما حقق هذا العلامة اللغوي الفذ كتبا أخرى منها: "أساس البلاغة" للزمخشري و "المخصص" لابن سيده و "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني بعد الأخطاء الكبيرة التي وردت في طبعة بولاق إضافة إلى فهرسة جامعة للمؤلفات والكتب الإسلامية والعربية التي خلفها المسلمون في الأندلس خلال رحلة إلى اسبانيا بتكليف من السلطان العثماني عبد الحميد. المغالطة الخامسة، يقول الدكتور: "ولم يقدموا (الشناقطة) للعالم الإسلامي فقها للنصوص أو مشروعا تجديديا للدين". حرمان الشناقطة من الوقف المغاربي في الحجاز.. مظلمة قديمة متجددة / محمد يحيى بن محمد بن احريمو | موريتانيا الآن | Rim Now. وهذا مجاف للواقع والحقيقة. فالشناقطة دعوا للتجديد وأنتجوا آلاف الفتاوي الفقهية التي تخرج عن نصوص الفقه المالكي المعمول بها في بلادهم (بلاد شنقيط، موريتانيا حاليا) ومنطقة المغرب العربي عموما. وأحيل الدكتور إلى رسالتي لنيل شهادة الدروس المعمقة تحت عنوان: "فقه النوازل الموريتانية على ضوء المصالح المرسلة"، وقد ضمنتها جداول لعشرات الفتاوى التي أبدع فيها الشناقطة في العبادات والمعاملات والأقضية والحدود.
الشناقطة في السعودية موقع مرجان
القومية العربية فشلت في مشروعها الشامل ، فشلت في جذورها، و منابتها، ولو أنها سجلت نقاطا إيجابية في بقاع مختلفة من بلدان لغة الضاد ، فإنها فشلت فشلا ذريعا حتى إنقراض الإسم المركب " الوطن العربي " في الإعلام ، و مؤسسات الأبحاث العالمية الدولية ، وتزامن سقوطها مع سقوط جدار برلين بشكل كلي وسيطرة النظامي القطبي الأحادي ، وكل البلدان التي كانت مدارس القومية العربية تحاربها، وتريد أن تتفوق عليها، أو تجتثها من جذورها، " تفوقت " على العرب ، وهزمتهم، وقطعت أوصالهم، وهذه الأمم هي: الفرس، والأتراك، واليهود.
الشناقطة في السعودية خلال ورشة
منارة مسجد شنقيط
الشناقطة جمع مفرده الشنقيطي وهو نسبة إلى مدينة شنقيط الواقعة في شمال موريتانيا وتأسست سنة 660هـ/ 1261م. واشتهرت المدينة بكثرة علمائها ومدارسها الدينية حتى باتت قوافل الحجيج في هذا القطر تتخذها منطلقا باتجاه الحجاز كما أورد العلامة سيدي عبد الله ولد الحاج ابراهيم العلوي (ت 1233هـ/ 1818 م) في مؤلفه: "صحيحة النقل". وخلال رحلتهم إلى الحجاز مرورا بالمغرب ومصر والسودان ودول افريقيا، كان الناس يسألونهم من أين قدمتم؟ فيردون: شنقيط لأن اسم موريتانيا، الذي أطلقه الاستعمار الفرنسي لاحقا على هذا الجزء من بلاد الإسلام، لم يكن آنذاك قد وجد. فأصبحت كلمة شنقيط تدل على هذا الثغر من ثغور الإسلام. لكن السفر إلى الحجاز ليس مجرد رحلة دينية لأداء مناسك الحج، بل كان رحلة علمية غالبا ما يستغلها الموريتانيون للتدريس والدراسة وجلب الكتب. الشناقطة في السعودية موقع مرجان. كانت قوافل الحج تضم شخصيات علمية مرموقة شاءت الأقدار أن تجمعها مناظرات مع علماء المناطق التي مرت بها. وقد حازت هذه الشخصيات قدرا كبيرا من الاحترام في المشرق العربي. ما أدى إلى حدوث انزياح لغوي في مدلول كلمة شنقيطي حيث لم تعد تعني الانسان القادم من ذلك الحيز الجغرافي كما أريد لها في البداية.
الشناقطة في السعودية
ويكفيهم شرفا أن العالم اللغوي مرتضى الزبيدي مؤلف كتاب: "تاج العروس في شرح القاموس" ذكرهم من بين شيوخه. ويكفي الشناقطة الموريتانيين شرفا واحتراما أنهم درّسوا في مصر الأزهر وفي عراق الحضارة وفي الحرمين المكي والمدني وتصدوا للفتوى والتدريس ومقارعة الاستعمار أينما حلوا في المغرب والعراق والكويت والسعودية ومصر والسودان واليمن والأردن والإمارات العربية ولبنان والبحرين بل وحتى تركيا والهند وتركوا بصمات خالدة في كل الدول العربية والإسلامية التي أقاموا بها. أولئك شناقطة الأمس وعلى خطاهم سار وسيسير الشناقطة الجدد: العلامة الشيخ محمد الحسن الددو والعلامة الشيخ عبد الله بن بيه وغيرهما من شباب الشناقطة الذين بزوا أقرانهم في مسابقات الشعر على مرأى ومسمع الجميع. الشناقطة في السعودية خلال ورشة. أختم هذا الرد بدعوة المثقفين والعلماء والصحافيين والأدباء والكتاب في مشرقنا العربي إلى تجاوز نظرية المركز والأطراف التي تسكن عقولهم. كما أدعوهم للخروج من هذه النظرة الاختزالية للإبداع في منطقة دون أخرى. فعندما وضع تحقيب لتاريخ الأدب العربي، في بدايات القرن الماضي لم تتم مراعاة النهضة الأدبية الكبيرة التي عرفتها بلاد شنقيط (موريتانيا اليوم) في القرنين 12 و13 هـ أي 18 و19 م.
لي أصدقاء شناقطة كثر، أنا لهم محب، وبهم متيّم؛ وقد بلغت محبّتي للشناقطة، أن أسلمتني الطرق وأنا أسير ليلةً ما إلى طريق مظلم، وقفتُ فيه سيارتي، وإذا رجل مسنّ شديد النُّحف، على رأسه عمامة شنقيطية، يبدو تحتها وجهه العتيق، الناتئ عظم الوجنتين، تائهٌ في درّاعة واسعة فضفاضة تنفخها الريح كأنها منطاد، تبدو من تحتها رجلاه، يبّسهما جفاف الصحراء، فأهويت أستلمُه عناقًا وتقبيلًا، فتفاجأ بهذا "المجنون" الذي يهجم على الناس في الشوارع يوسعهم تقبيلًا واحتضانًا! لم يكد يصحو هذا الشيخ الشنقيطي من فجاءتِه (بعد حفلة العناق والتقبيل هذه) حتى سألني: من أين أنت؟ فأخبرته، وقلت معتذرًا: سامحني يا شيخ؛ ما تمالكتُ نفسي إذ رأيت شنقيطيا يبدو أنه خرج توًّا من البادية حتى هفوت للسلام؛ فأنا أحب الشناقطة، فأجابني بذكاء الشناقطة وظرفهم وهو يبتسم: والشناقطة أيضًا يحبونك. ثم أخبرني أنه يجمع المال لمحضرة كذا وكذا، فسارعت إلى الاتصال بصديق لي شنقيطي "أبشّره" بأن هناك من يجمع المال لمحضرة كذا وكذا في منطقة كذا وكذا، فأرسل إليّ يحذرني أن هذه المحضرة ليست من المحاضر المعتمدة، وأن هذا الرجل المنتمي إليها ليس بذاك، حتى إنه قال لي: سله عن شيء في الأصول تجده جاهلًا.
وقد وصل بهم التجديد للدعوة إلى خلق فقه خاص بالبادية لأنهم رأوا أن الفقه المالكي لا يتناسب، لكونه ألف في الغالب في المدن، مع واقعهم البدوي. وألف العلامة الشيخ محمد المامي الشنقيطي كتاب: "البادية" الذي أرسى فيه أسس فقه خاص بأهل البادية. لا يحسن بشيخ في مكانة الدكتور القرني أن يتنكر لهذه المساهمة الكبيرة التي قدمها الشناقطة وما يزالون يقدمونها للحضارة العربية الإسلامية. والسعوديون أدرى من غيرهم بتلك المساهمة لأنهم احتضنوا مئات العلماء الشناقطة الذين كانوا يفدون لأداء مناسك الحج والعمرة. الحاج الأمين القلاوي رحمه الله تعالى : مؤسس أوقاف الشناقطة في السعودية - YouTube. وما تزال السعودية تحتضن آلاف الأسر التي تحمل هذا اللقب (الشنقيطي) الذي أصبح يعني العالم المتقن لكل الفنون. وقد كان أهل السعودية يتندرون بالقول: "المصري عالم في النهار والشنقيطي عالم في الليل". لأن المصري لا يفتي إلا في النهار عندما يكون بجانب كتبه، يفتحها وينظر فيها ويخرج الأحكام. أما الشنقيطي فيحفظ القرآن والحديث وشروحهما ويستنبط الحكم دون الحاجة للرجوع إلى الكتب. لكن يكفي الشناقطة احتراما واعترافا بمكانتهم أن المفكر المصري العربي طه حسين ذكر في سيرته الذاتية: "الأيام" أنهم درّسوه في الأزهر واعترف لهم بعلو الكعب في كل مجالات العلوم العربية والإسلامية.