والمقصود الأهم من هذا الخطاب القرآني تنبيه المؤمنين عامة، والدعاة منهم خاصة، على ضرورة التوافق والالتزام بين القول والعمل، لا أن يكون قولهم في واد وفعلهم في واد آخر؛ فإن خير العلم ما صدَّقه العمل، والاقتداء بالأفعال أبلغ من الإقتداء بالأقوال؛ وإن مَن أَمَرَ بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة؛ وفي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم ( كان خلقه القرآن) أي: إن سلوكه صلى الله عليه وأفعاله كانت على وَفْقِ ما جاء به القرآن وأمر به؛ إذ إن العمل ثمرة العلم، ولا خير بعلم من غير عمل. وأخيرًا: نختم حديثنا حول هذه الآية، بقول إبراهيم النخعي: إني لأكره القصص لثلاث آيات، قوله تعالى: { أتأمرون الناس بالبر} وقوله: { لِمَ تقولون ما لا تفعلون} (الصف:2) وقوله: { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} (هود:88) نسأل الله أن يجعلنا من الذين يفعلون ما يؤمرون { وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} (هود:88).
أتأمرون الناس بالبر و تنسون أنفسكم
و{ البر} بكسر الباء: الخير في الأعمال في أمور الدنيا وأمور الآخرة؛ ومن المأثور قولهم: البر ثلاثة، بر في عبادة الله، وبر في مراعاة الأقارب، وبر في معاملة الأجانب. ثم إن التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر، لا بسبب الأمر بالبر؛ ولهذا ذم الله تعالى في كتابه قومًا كانوا يأمرون بأعمال البر، ولا يعملون بها، ووبَّخهم به توبيخًا يتلى إلى يوم الناس هذا؛ إذ إن الأمر بالمعروف واجب على العالِم، والأولى بالعالِم أن يفعله مع من أمرهم به، ولا يتخلف عنهم، كما قال شعيب عليه السلام لقومه: { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} (هود:88) فكلٌّ من الأمر بالمعروف وفعله واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر، على أصح قولي العلماء من السلف والخلف. { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون } سورة البقرة - YouTube. و(النسيان) في قوله جلَّ وعلا: { وتنسون أنفسكم} هو الترك، أي: تتركون أنفسكم بإلزامها ما أمرتم به غيركم؛ والنسيان ( بكسر النون) يكون بمعنى الترك، وهو المراد هنا، ومثله قوله تعالى: { نسوا الله فنسيهم} (التوبة:67) وقوله أيضًا: { فلما نسوا ما ذكروا به} (الأنعام:44) وما أشبه ذلك من الآيات؛ ويكون خلاف الذكر والحفظ. وقوله سبحانه: { أفلا تعقلون} استفهام عن انتفاء تعقُّلهم، وهو استفهام على سبيل الإنكار والتوبيخ، نزلوا منـزلة من انتفى تعقله، فأنكر عليهم ذلك، إذ إن من يستمر به التغفل عن نفسه، وإهمال التفكر في صلاحها، مع مصاحبة شيئين يذكِّرانه، قارب أن يكون منفيًا عنه التعقل، وكون هذا الأمر أمرًا قبيحًا لا يشك فيه عاقل.
أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم تفسير
نقض الميثاق
وقال مُحَمَّد بْن إِسْحَاق عن مُحَمَّد عن عِكْرِمَة أو سَعِيد بْن جُبَيْر عن اِبْن عَبَّاس "وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسكُمْ" أي تتركون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون أي تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوَّة والعهد من التوراة وتتركون أنفسكم أي وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي وتنقضون ميثاقي وتجحدون ما تعلمون من كتابي. وقال الضَّحَّاك عن اِبْن عَبَّاس في هذه الآية يقول أتأمرون النَّاس بالدخول في دين محمَّد صلى اللَّه عليه وسلم وغير ذلك مما أُمِرتم به من إقام الصلاة وتنسون أنفسكم. أتأمرون الناس بالبر و تنسون أنفسكم. وقال أبو جَعْفَر بْن جَرِير حَدَّثَنِي عَلِيّ بْن الْحَسَن حَدَّثَنَا أَسْلَمَ الْحَرَمِيّ حَدَّثَنَا مَخْلَد بْن الْحُسَيْن عن أَيُّوب السِّخْتِيَانِيّ عن أَبِي قِلَابَة في قول اللَّه تعالى "أَتَأْمُرُونَ النَّاس بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَاب" قال أبو الدَّرْدَاء رضي اللَّه عنه لا يفقه الرجل كل الفقه حتَّى يمقت النَّاس في ذات اللَّه ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا. ذمّ اليهود
وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الآية هؤلاء اليهود إذا جاء الرجل سألهم عن الشيء ليس فيه حق ولا رشوة أمروه بالحق فقال اللَّه تعالى "أَتَأْمُرُونَ النَّاس بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَاب أَفَلَا تَعْقِلُونَ" والغرض أن اللَّه تعالى ذمهم على هذا الصنيع ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له بل على تركهم له فإن الأمر بالمعروف معروف وهو واجب على العالم ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به ولا يتخلف عنهم.
اتامرون الناس بالبر وينسون انفسهم
حديث آخر: قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: حدثنا وكيع، حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد وهو ابن جدعان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، قال: قلت: من هؤلاء؟ قالوا: خطباء أمتك من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب، أفلا يعقلون؟! ). ورواه عبد بن حميد في مسنده وتفسيره عن الحسن بن موسى عن حماد بن سلمة به، ورواه ابن مردويه في تفسيره من حديث يونس بن محمد المؤدب والحجاج بن منهال كلاهما عن حماد بن سلمة به، وكذا رواه يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة به]. اتامرون الناس بالبر وينسون انفسهم. كل هذه الأحاديث تدور على علي بن جدعان وهو ضعيف، فيكون الحديث ضعيفاً. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم، حدثنا موسى بن هارون، حدثنا إسحاق بن إبراهيم التستري ببلح - التسرتي نسبة إلى تستر وهي بلدة في الشرق- حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا عمر بن قيس عن علي بن زيد عن ثمامة عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم)].
هذا ضعيف بلا شك، فالإنسان عليه واجبان: واجب امتثال الأمر، والواجب الثاني أن يدعو الناس إليه، وعليه واجبان في المنهيات: ترك المحرم، ونهي غيره عنه، فإذا ضعف عن واحد منهما فلا يسقط الآخر، فإذا لم يعمل وجب عليه أن يدعو الناس وإن كان مذموماً، لكنه ترك أحد الواجبين وبقي عليه واجب آخر؛ ولهذا يقال: على أهل الكئوس - يعني: الذين يشربون الخمر- أن ينهى بعضهم بعضاً وهم يشربون الخمر، فكونه الآن لا يترك الخمر قبيح، لكن كونه ينهى غيره فهذا مطلوب، إذ هذا واجب آخر، وإن كان هذا قبيح بالإنسان، حيث ينهى عن الشيء ثم يفعله ويأمر بالشيء ولا يفعله. ولهذا قال الشاعر: لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأضعف منه تمسكهم بهذه الآية، فإنه لا حجة لهم فيها، والصحيح: أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه.
هذا كلام الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي. الصبر وأنواعه
الجهاد مراحله وأنواعه
وجهاد النفس أربع مراتب: العلم، والعمل، والدعوة، والصبر على أذى الناس، وجهاد الشيطان، وجهاد الشهوات التي يزينها الشيطان لك، ثم بعد ذلك جهاد الشبهات التي يلقيها عليك الشيطان، وجهاد الشهوات يكون بالصبر، أما جهاد الشبهات فيكون باليقين في آيات الله عز وجل، ثم بعد ذلك جهاد المبتدعة باللسان، ثم بعد ذلك جهاد المنافقين باللسان: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73]، فأي زنديق يطعن في دين الله عز وجل، أو يتكلم في دين الله عز وجل، أو يطعن في الصلاة التي هي أساس دين الله عز وجل فعليك أن تجاهده، وتبين عواره للناس. ثم جهاد الكفار، ويكون بالسيف واللسان كذلك، وقد مر الجهاد بمراحل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمرحلة الأولى: هي مرحلة الكف، وفيها لم يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال أي رجل من الكافرين في مكة، ثم بعد هذا جاء الإذن بقتال من قاتله، قال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج:39]، ثم بعد هذا جاء الأمر بوجوب قتال من قاتلك، وأما من سالمك من الكفار فلا تقاتله، ثم أتت المرحلة الرابعة: وهي مرحلة السيف، فابدأ بالقتال لكل الناس حتى يسلموا لله عز وجل، أو يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون.