الفرار من السجن وفشلت توسلات "ابن زيدون" ورسائله في استعطاف الأمير حتى تمكن من الفرار من سجنه إلى "إشبيلية"، وكتب إلى ولادة بقصيدته النونية الشهيرة التي مطلعها: أضحى التنائي بديلا من تدانينا----وناب عن طيب لقيانا تجافينا وما لبث الأمير أن عفا عنه، فعاد إلى "قرطبة" وبالغ في التودد إلى "ولادة"، ولكن العلاقة بينهما لم تعد أبدًا إلى سالف ما كانت عليه من قبل، وإن ظل ابن زيدون يذكرها في أشعاره، ويردد اسمها طوال حياته في قصائده. ولم تمض بضعة أشهر حتى توفي الأمير، وتولى ابنه "أبو الوليد بن جمهور" صديق الشاعر الحميم، فبدأت صفحة جديدة من حياة الشاعر، ينعم فيها بالحرية والحظوة والمكانة الرفعية. ولكن خصوم الشاعر ومنافسيه لم يكفوا عن ملاحقته بالوشايات والفتن والدسائس حتى اضطر الشاعر ـ في النهاية ـ إلى مغادرة "قرطبة" إلى "إشبيلية" وأحسن "المعتضد بن عباد" إليه وقربه، وجعله من خواصه وجلسائه، وأكرمه وغمره بحفاوته وبره. قصة ابن زيدون وولادة. في إشبيلية واستطاع "ابن زيدون" بما حباه الله من ذكاء ونبوغ أن يأخذ مكانة بارزة في بلاط "المعتضد"، حتى أصبح المستشار الأول للأمير، وعهد إليه "المعتضد"، بالسفارة بينه وبين أمراء الطوائف في الأمور الجليلة والسفارات المهمة، ثم جعله كبيرًا لوزرائه، ولكن "ابن زيدون" كان يتطلع إلى أن يتقلد الكتابة وهي من أهم مناصب الدولة وأخطرها، وظل يسعى للفوز بهذا المنصب ولا يألو جهدًا في إزاحة كل من يعترض طريقه إليه حتى استطاع أن يظفر بهذا المنصب الجليل، وأصبح بذلك يجمع في يديه أهم مناصب الدولة وأخطرها وأصبحت معظم مقاليد الأمور في يده.
قصيدة ولادة لابن زيدون - إدراك
ذات صلة شعر ابن زيدون في الحب ابن زيدون يصف الزهراء
ابن زيدون وولادة
ظهرت مَلَكة الشعر عند ابن زيدون وهو في سن العشرين، عندما أطلق مرثيَّة بليغة على قبر القاضي ابن ذكوان عند وفاته، وسرعان ما تطوَّرت العلاقات إلى أن وصلت إلى ولّادة بنت المستكفي بالله الخليفة الأموي، التي ما لبثت بعد وفاة أبيها إلا أن انشقَّت عن النساء والتحقت بمجال الشعراء والأدباء، ويشهدُ لها الناس بحسن مجلسها وجمال مبسمها ووجهها. ولم يمرّ وقت كثير على تطور العلاقة بينهما، إذ أرسلت إليه رسالةً مجيبة له بعد إصراره على لقائها: [١] ترقـّب إذا جــنّ الـظـلام زيارتــي
فإنّي رأيــت الليل أكـتـم للـســرِّ وَبي منك ما لو كانَ بالشمسِ لم تلح
وبالبدر لم يطلع وَبالنجم لم يسرِ
بيد أنَّ سرهما لم يلبث أن انكشف أمره أمام الناس، وتناقلت الإشاعات بأنَّ ابن زيدون يحبُّ جارية ولَّادة وكان أحدهم يقال له ابن عبدوس يحاول أن يظفر بولّادة مستنداً على ماله ونجح في ذلك، مما استثار حفيظة ابن زيدون، وبدأ يهجو بابن عبدوس بطريقةٍ لاذعة حوَّلت حبَّ بنت المستكفي إلى بغضٍ وكرهٍ شديدَين. ولم ينأى ابن عبدوس عن تدبير المكائد لابن زيدون فاتهمه بتبديد أموال مؤتمنٍ عليها، فحُطَّ به في السجن، إلَا أن ذلك لم ينسِهِ ولَادة وكتب نونيَّتَه المشهورة: [١] أَضْحَى التَّنَائِـي بَدِيْـلاً مِـنْ تَدانِيْنـا
وَنَابَ عَـنْ طِيْـبِ لُقْيَانَـا تَجَافِيْنَـا ألا وقد حانَ صُبـح البَيْـنِ صَبَّحنـا
حِيـنٌ فقـام بنـا للحِيـن ناعِيـنـا
التعريف بابن زيدون
هو أبو الوليد أحمد بن عبد الله المخزوميِّ الأندلسيِّ ، كان من أشهر شعراء بني مخزوم إذ كان خاتمتهم، ويعدُّ من أبناء وجوه الفقهاء في قرطبة ، جدَّ في كتابة الشعر وبرع في نظمه.
عاشت دول الإسلام في الأندلس (إسبانيا) من سنة ٧١١ﻫ إلى سنة ١٤٩٢ﻫ. وكان الأندلسيون
عربًا مسلمين من حيث اللغة والدين، ولكنهم كانوا آريين من حيث الدم والعنصر، ليس فيهم
إلا
القليل من الدم العربي. وقد زكت الفنون والعلوم فيها حتى كان الأوروبيون ينحون إليها للتعلم في مدارسها، وظهر
فيها عدد كبير من الفقهاء واللغويين والمؤرخين والشعراء والفلاسفة. ويبدو من استقرار تاريخ الأندلسيين أن النساء لم يكن يخضعن للحجاب تمام الخضوع، كما
كن
يفعلن في الشرق، ولعل ذلك من أثر الجو البارد عليهن؛ لأن الحجاب وليد الجو الحار؛ فقد
ذكر
المؤرخون أن النساء كن يقعدن في ميادين قرطبة وغيرها، ويحترفن نسخ الكتب! وكانت الأندلس دولة واحدة في عصر خلفائها الأمويين، ثم تمزقت الدولة فصارت دويلات
صغيرة،
على كل منها ملك أو أمير، لا يفتأ في شجار ونزاع مع جيرانه. وقد تتجزأ الدويلة عند موته
إمارات صغيرة، يستبد على كل منها أمير، ينعت نفسه بنعوت الملك والإمارة، حتى قال أحد
شعراء
الأندلس يصف هذه الدويلات:
مما يزهدني في أرض أندلس
ألقاب معتضد فيها ومعتمد
أسماء مملكة في غير موضعها
كالقط يحكي انتفاخًا صولة الأسد
ففي هذا الزمن نشأ رجل يُدعى أبا الوليد أحمد … بن زيدون، وُلد بقرطبة سنة ٣٩٤ﻫ وترقَّى
بإشبيلية سنة ٤٦٣ﻫ.