وقَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: ﴿وإمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ﴾ [الأعراف: ٢٠٠] في آخِرِ الأعْرافِ. والمَعْنى: إذا كانَ ما يُوعَدُونَ حاصِلًا في حَياتِي فَأنا أدْعُوكم أنْ لا تَجْعَلُونِي فِيهِمْ حِينَئِذٍ. (p-١١٩)واسْتِعْمالُ حَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ مِن قَوْلِهِ: ﴿فِي القَوْمِ الظّالِمِينَ﴾ يُشِيرُ إلى أنَّهُ أُمِرَ أنْ يَسْألَ الكَوْنَ في مَوْضِعٍ غَيْرِ مَوْضِعِ المُشْرِكِينَ، وقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ بِالهِجْرَةِ إلى المَدِينَةِ فالظَّرْفِيَّةُ هُنا حَقِيقِيَّةٌ، أيْ: بَيْنَهم. والخَبَرُ الَّذِي هو قَوْلُهُ: ﴿وإنّا عَلى أنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهم لَقادِرُونَ﴾ مُسْتَعْمَلٌ في إيجادِ الرَّجاءِ بِحُصُولِ وعِيدِ المُكَذِّبِينَ في حَياةِ الرَّسُولِ ﷺ، وإلّا فَلا حاجَةَ إلى إعْلامِ الرَّسُولِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ عَلى ذَلِكَ. و إِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ - مع القرآن - أبو الهيثم محمد درويش - طريق الإسلام. وفِي قَوْلِهِ: ﴿أنْ نُرِيَكَ﴾ إيماءٌ إلى أنَّهُ في مَنجاةٍ مِن أنْ يَلْحَقَهُ ما يُوعَدُونَ بِهِ وأنَّهُ سَيَراهُ مَرْأى عَيْنٍ دُونَ كَوْنٍ فِيهِ. وقَدْ يَبْدُو أنَّ هَذا وعْدٌ غَرِيبٌ؛ لِأنَّ المُتَعارَفَ أنْ يَكُونَ العَذابُ سَماوِيًّا، فَإذا نَجّى اللَّهُ مِنهُ بَعْضَ رُسُلِهِ مِثْلَ لُوطٍ فَإنَّهُ يُبْعِدُهُ عَنْ مَوْضِعِ العَذابِ، ولَكِنْ كانَ عَذابُ هَؤُلاءِ غَيْرَ سَماوِيٍّ فَتَحَقَّقَ في مَصْرَعِ صَنادِيدِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِمَرْأى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ووَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ عَلى القَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ وناداهم بِأسْمائِهِمْ واحِدًا واحِدًا وقالَ لَهم: «لَقَدْ وجَدْنا ما وعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وجَدْتُمْ ما وعَدَ رَبُّكم حَقًّا».
و إِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ - مع القرآن - أبو الهيثم محمد درويش - طريق الإسلام
إعراب الآيات (91- 92): {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)}. الإعراب: (ما) نافية (ولد) مجرور لفظا منصوب محلّا مفعول به (معه) ظرف منصوب متعلّق بخبر مقدّم ل (كان)، (إله) مجرور لفظا مرفوع محلّا اسم كان مؤخّر (إذا) حرف جواب لا محلّ له اللام واقعة في جواب لو مقدّر، (ما) اسم موصول في محلّ جرّ بالباء متعلّق ب (ذهب) بتضمينه معنى انفرد اللام مثل الأول (على بعض) متعلّق ب (علا)، (سبحان) مفعول مطلق لفعل محذوف (عمّا) متعلّق ب (سبحان)، و(ما) موصول والعائد محذوف.. أو حرف مصدريّ. جملة: (ما اتّخذ اللّه... ) لا محلّ لها استئنافيّة بيانيّة. وجملة: (ما كان... ) لا محلّ لها معطوفة على جملة ما اتّخذ اللّه. القرآن الكريم - تفسير ابن كثير - تفسير سورة المؤمنون - الآية 95. وجملة: (ذهب كلّ إله... ) لا محلّ لها جواب شرط مقدّر أي لو كان معه آلهة لذهب. وجملة: (علا بعضهم... ) لا محلّ لها معطوفة على جملة ذهب كلّ إله. وجملة: نسبّح (سبحان... ) لا محلّ لها استئنافيّة متضمّنة معنى الدعاء.
القرآن الكريم - تفسير ابن كثير - تفسير سورة المؤمنون - الآية 95
قوله عز وجل: قل رب إما تريني ما يوعدون رب فلا تجعلني في القوم الظالمين وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو لنفسه بالنجاة من عذاب الظلمة إن كان قضي أن يرى ذلك، و "إن" شرط و "ما" زائدة، و "تريني" جزم بالشرط لزمت النون الثقيلة، وهي لا تفارق "إما" عند المبرد ، ويجوز عن سيبويه أن تفارق فيقال: "إما تريني"، لكن استعمال القرآن لزومها فمن هنالك التزمه المبرد. وهذا الدعاء فيه استصحاب الخشية والتحذير من الأمر المعذب من أجله، ثم نظيره لسائر الأمة دعاء في جودة الخاتمة. وفي هذه الآية بجملتها إعلام بقرب العذاب منهم كما كان في يوم بدر. وقوله ثانيا: "رب" اعتراض بين الشرط وجوابه. وفي قوله تعالى: ادفع بالتي هي أحسن السيئة الآية أمر بالصفح ومكارم الأخلاق، وما كان منها لهذا فهو حكم باق في الأمة أبدا، وما فيها من معنى موادعة الكفار وترك التعرض لهم والصفح عن أمورهم فمنسوخ بالقتال، وقوله تعالى: نحن أعلم بما يصفون يقتضي أنها آية موادعة. فصل: إعراب الآية رقم (96):|نداء الإيمان. وقال مجاهد: الدفع بالتي هي [ ص: 319] أحسن هو السلام، يسلم عليه إذا لقيه، وقال الحسن: والله لا يصيبها أحد حتى يكظم غيظه ويصفح عما يكره.
فصل: إعراب الآية رقم (96):|نداء الإيمان
فالوعيد المذكور هنا وعيد بعقاب في الدنيا كما يقتضيه قوله: { فلا تجعلني في القوم الظالمين}. وذكر في هذا الدعاء لفظ ( رب) مكرراً تمهيداً للإجابة لأن وصف الربوبية يقتضي الرأفة بالمربوب. وأدخل بعد حرف الشرط ( ما) الزائدة للتوكيد فاقترن فعل الشرط بنون التوكيد لزيادة تحقيق ربط الجزاء بالشرط. ونظيره في تكرير المؤكدات بين الشرط وجوابه قول الأعشى:... إما تَرَيْنا حفاةً لا نعال لنا إنا كذلِك ما نحفَى وننتعل... أي فاعلمي حقاً أنا نحفى تارة وننتعل أخرى لأجل ذلك ، أي لأجل إخفاء الخطى لا للأجل وجدان نعل مرة وفقدانها أخرى كحال أهل الخصاصة. وقد تقدم في قوله { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ} في آخر الأعراف ( 200). والمعنى: إذا كان ما يوعدون حاصلاً في حياتي فأنا أدعوكم أن لا تجعلوني فيهم حينئذ. إعراب القرآن: «قُلْ» أمر فاعله مستتر والجملة مستأنفة «رَبِّ» منادى بأداة نداء محذوفة وهو منصوب على النداء بالفتحة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف والجملة مقول القول «إِمَّا» مؤلفة من إن الشرطية وما الزائدة «تُرِيَنِّي» مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وهو في محل جزم فعل الشرط والنون للوقاية والياء مفعول به أول والفاعل مستتر «ما» اسم موصول مفعول به ثان «يُوعَدُونَ» مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل والجملة صلة.
وإلا فإن الله قد قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:٢] ، وقال: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:٦٧] ، ولكن كأنه يقول له: في مقام التضرع والدعاء ادع ربك ألا يعذبك، فأنت لا تأمن مكر الله سبحانه وتعالى، فإذا كان رسول الله قد أمر بذلك فغيره من باب أولى، فعلى كل إنسان مؤمن ألا يأمن مكر الله سبحانه وتعالى، خاصة وقد أخبرنا سبحانه أنه إذا نزل عذابه فإنه لا يأتي للظلمة فقط، ولكنه يعم الظلمة وغيرهم، ثم يبعثون على نياتهم يوم القيامة. فعلى الإنسان المؤمن أن يخاف من بطش الله ومن مكره سبحانه. قال تعالى: {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:٩٥] أي: ما نتوعدهم به من العذاب سيكون، ولكن لكل شيء عند الله أجل مكتوب عنده سبحانه، فسنظهر لك هذا الذي توعدناهم به.