تضمنت سورتا القلم والحاقة أخباراً لبعض الأمم الماضية، وذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وعبرة وعظة لأمته. واشتملت سورة الحاقة على قاعدة عظيمة ومعادلة كونية لا تتغير ولا تتبدل، وهي أن المعصية تجلب العقوبة والدمار والانتقام، والطاعة تجلب الرحمة والرضوان.. وشواهد هذه السنة الكونية كثيرة.
تفسير قوله تعالى: فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت
وقيل: إنهم كانوا يقولون ما اظهر حججه، وما افصح كلامه، وما أبلغ خطابه، يريدون بذلك ان يعينوه به، قال البلخي: المعنى إنهم كانوا ينظرون إليه نظر عداوة وتوعد، ونظر من بهم به، كما يقول القائل: يكاد يصرعني بشدة نظره قال الشاعر:
يتعارضون إذا التقوا في موطن * نظرا يزيل مواضع الاقدام ( 5)
أي ينظر بعضهم إلى بعض نظرا شديدا بالبغضاء والعداوة، ونظر يزيل الاقدام عن مواضعها أي يكاد يزيل. وقوله (لما سمعوا الذكر) يعني القرآن (ويقولون) مع ذلك (إنه لمجنون) قد غلب على عقله، قالوا ذلك فيه مع علمهم بوقارة عقله تكذبا عليه ومعاندة له، فقال الله تعالى ردا عليهم (وما هو) أي ليس هذا القرآن (إلا ذكر للعالمين) أي شرف إلى أن تقوم الساعة. 1 - سورة 25 الفرقان آية 65. 2 - مر في 7 / 505 و 9 / 505. 3 - مر في 8 / 530. إعراب قوله تعالى: فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم الآية 48 سورة القلم. 4 - القرطبي 18 / 256 وهو مروي مع اختلاف. 5 - مر في الصفحة التي قبلها. وقد روي في غير هذا الكتاب مع هذا الاختلاف في الكلمات..
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ - مع القرآن (من الأحقاف إلى الناس) - أبو الهيثم محمد درويش - طريق الإسلام
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال: ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله. وقوله: ( لولا أن تداركه نعمة من ربه) يقول جل ثناؤه: لولا أن تدارك صاحب الحوت نعمة من ربه ، فرحمه بها ، وتاب عليه من مغاضبته ربه ( لنبذ بالعراء) وهو الفضاء من الأرض: ومنه قول قيس بن جعدة: ورفعت رجلا لا أخاف عثارها ونبذت بالبلد العراء ثيابي
( وهو مذموم) اختلف أهل التأويل في معنى قوله: ( وهو مذموم) فقال بعضهم: معناه وهو مليم. حدثني علي ، قال: ثني أبو صالح ، قال: ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، في قوله: ( وهو مذموم) يقول: وهو مليم. تفسير قوله تعالى: فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت. وقال آخرون: بل معنى ذلك: وهو مذنب
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال: ثنا المعتمر ، عن أبيه عن بكر ( وهو مذموم) [ ص: 564] قال: هو مذنب.
إعراب قوله تعالى: فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم الآية 48 سورة القلم
ويجوز أن تكون مصدرية ، أي لولا تدارك رحمة من ربه. والتدارك: تفاعل من الدرك بالتحريك وهو اللحاق ، أي أن يلحق بعض السائرين بعضا وهو يقتضي تسابقهم وهو هنا مستعمل في مبالغة إدراك نعمة الله إياه. والنبذ: الطرح والترك. والعراء ممدودا: الفضاء من الأرض الذي لا نبات فيه ولا بناء. والمعنى: لنبذه الحوت أو البحر بالفضاء الخالي ؛ لأن الحوت الذي ابتلعه من النوع الذي يرضع فراخه فهو يقترب من السواحل الخالية المترامية الأطراف خوفا على نفسه وفراخه. [ ص: 106] والمعنى: أن الله أنعم عليه بأن أنبت عليه شجرة اليقطين كما في سورة الصافات. وأدمج في ذلك فضل التوبة والضراعة إلى الله ، وأنه لولا توبته وضراعته إلى الله وإنعام الله عليه نعمة بعد نعمة لقذفه الحوت من بطنه ميتا فأخرجه الموج إلى الشاطئ فلكان مثلة للناظرين أو حيا منبوذا بالعراء لا يجد إسعافا ، أو لنجا بعد لأي والله غاضب عليه فهو مذموم عند الله مسخوط عليه. فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ - مع القرآن (من الأحقاف إلى الناس) - أبو الهيثم محمد درويش - طريق الإسلام. وهي نعم كثيرة عليه إذ أنقذه من هذه الورطات كلها إنقاذا خارقا للعادة. وهذا المعنى طوي طيا بديعا وأشير إليه إشارة بليغة بجملة لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم. وطريقة المفسرين في نشر هذا المطوي أن جملة وهو مذموم في موضع الحال وأن تلك الحال قيد في جواب ( لولا) ، فتقدير الكلام: لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء نبذا ذميما ، أي ولكن يونس نبذ بالعراء غير مذموم.
والمراد بحكم الربّ هنا أمره وهو ما حُمله إياه من الإِرسال والاضطلاع بأعباء الدعوة. وهذا الحكم هو المستقرأ من آيات الأمر بالدعوة التي أولها { يا أيها المدثر قم فأنذر إلى قوله: { ولربك فاصبر} [ المدثر: 17] فهذا هو الصبر المأمور به في هذه الآية أيضاً. ولا جرم أن الصبر لذلك يستدعي انتظار الوعد بالنصر وعدم الضجر من تأخره إلى أمده المقدر في علم الله. وصاحب الحوت: هو يونس بن متَّى ، وقد تقدم ذكره عند قوله تعالى: { ووهبنا له إسحاق} إلي قوله: { ويونس} في سورة الأنعام ( 84 86). والصاحب: الذي يصحب غيره ، أي يكون معه في بعض الأحوال أو في معظمها ، وإطلاقه على يونس لأن الحوت التقمه ثم قذفه فصار ( صاحبُ الحوت)} لقباً له لأن تلك الحالة معيَّة قوية. وقد كانت مؤاخذةُ يونس عليه السلام على ضجره من تكذيب قومه وهم أهل نِينَوى كما تقدم في سورة الصافات. و { إذْ} طرف زمان وهو وجملته متعلق باستقرار منصوب على الحال أي في حالة وقت ندائه ربّه ، فإنه ما نادى ربّه إلاّ لإِنقاذه من كربه الذي وقع فيه بسبب مغاضبته وضجره من قومه ، أي لا يكن منك ما يلجئك إلى مثل ندائه. والمكظوم: المحبوس المسدود عليه يقال: كظم الباب أغلقَه وكظَم النهر إذا سده ، والمعنى: نادى في حال حبسه في بطن الحوت.
كما حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ) يقول: مغموم. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (مَكْظُومٌ) قال: مغموم. وكان قتادة يقول في قوله: (وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ): لا تكن مثله في العجلة والغضب. * ذكر من قال ذلك:حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ) يقول: لا تعجل كما عَجِل، ولا تغضب كما غضب. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.