وقدم إليه مثبِّتون له كذلك, فيقول الإمام أحمد محدثا عن نفسه: ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي, كلمني بها في رحبة طوق, قال: " يا أحمد! إن يقتلك الحق؛ مت شهيدا, وإن عشت؛ عشت حميدا " قال: فقوى قلبي. وكان من أعظم المثبتين له رفيقه محمد بن نوح الذي يقول عنه الإمام أحمد: "ما رأيت أحدا على حداثة سنه, وقدر علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح, إني لأرجو أن يكون قد ختم له بخير, قال لي ذات يوم: " يا أبا عبد الله! فتنة خلق القران. الله الله, إنك لست مثلي؛ أنت رجل يقتدى بك, قد مد الخلق أعناقهم إليك, لما يكون منك, فاتق الله واثبت لأمر الله ". ساروا إلى الخليفة، وفي الطريق مات محمد بن نوح, وبقي الإمام أحمد وحده ثابتا, وكان -رحمه الله- يدعو الله أن لا يجمع بينه وبين المأمون, فاستجاب الله دعوته, فجاء خبر وفاة المأمون وهو في الطريق, فرجع الإمام أحمد إلى الحبس في بغداد, وقد بويع للمعتصم بالخلافة. وكان المأمون قد أوصى المعتصم بالسير على طريقه في حمل الناس على خلق القرآن, وكان في وصيته: "يا أبا إسحاق! ادن مني واتعظ بما ترى, وخذ بسير أخيك في خلق القرآن", فأبقاه المعتصم في الحبس, فظهر صوت الباطل وخفت صوت الحق, فكان المبتدعة هم رؤوس الناس, وما كان يجرؤ على مخالفتهم أحد.
كتب فتنة خلق القرآن - مكتبة نور
انضمت مجموعة من مثقفي المسلمين إلى واصل, وتتلمذ عليه بعضهم فسموا المعتزلة والواحد معتزلي, وهذه الفرقة ينسب إليها النشاط الثقافي والعقلي الكبير, الذي ساد بغداد والعراق حتى منتصف القرن الثالث الهجري، هذه الفرقة تحديدا هي التي قالت بأن القرآن مخلوق, وأبرز علمائها هو إبراهيم بن سيار النظام, ويبدو أن الخليفة المأمون تتلمذ على يد هؤلاء, وأشربوه معتقدهم على أنه هو الصحيح, ومن ثم أراد المأمون حين وصل إلى السلطة أن يحمل الناس على هذه العقيدة المخالفة لمعتقد سلف الأمة، وهو أن القرآن كلام الله, لا يقال فيه غير ذلك, تكلم الله به على الحقيقة. في هذه الفترة كان إمام الناس هو أحمد بن حنبل, كان يحضر مجلسه تسعون ألفا, وكان معه شاب قليل العلم, لكنه الوحيد الذي ثبت معه في هذه المحنة, وهو محمد بن نوح ومات من الجلد، وقد تطور الأمر بالمأمون أن أمر بحمل الناس كلهم على القول بأن القرآن مخلوق، وخصوصا علماء الحديث وأبرزهم أحمد بن حنبل, ورفض علماء الحديث, لكن قوة المأمون وشدة بأسه جعلت الجميع يقولها مداراة له, وجعل بعض القوم يقول: القرآن مجعول, واشتدت الفتنة على الناس حين جاء دور أحمد بن حنبل ليحمل على القول فأبى, وصلبوه فأبى, وجلدوه فأبى, فلم يستجب الناس؛ لتطلعهم إلى أحمد بن حنبل, وثقتهم في قوله.
بدأ الخليفة يفكر في كلام ابن حنبل, فلما احس المعتزلة بأن المعتصم بدأ يلين أمام حجج الامام أحمد, لدرجة وصلت الى الإعجاب و طلبه للتتلمذ على يده, اوعزوا للخليفة بأنه ان اعترف بقول أحمد, فإن الناس ستقول عن الامام بأنه قد غلب خليفتين, هو و من قبله المأمون, فغضب المأمون و آثر ان لا يمس عزته أمر كهذا, فتراجع عن لينه. تعذيب الامام أحمد
خاف المعتصم أن يزيد التفاف الناس بالامام أحمد, فأمر بجَلده لعله يغير أقواله. تقدم الجلادون لضرب الامام أحمد بالسياط, و أمر الخليفة بتغيير السياط حتى أعجبته شدتها, ثم أمر عدد من الجلادين بجلده. و في هذه الأثناء أحاط عامة الناس بقصر الخليفة ينتظرون الأخبار. لم يزحزح الضرب موقف الامام أحمد, و أصر على قوله, فغضب الخليفة و سأل أشد الجلادين:
-"في كم تقتله؟" (و عنى: كم ضربة تحتاجها لقتله؟)
-"خمسة أو عشرة, أو خمسة عشر, أو عشرين"
فأمره الخليفة بقتله ضربا بالسياط و الاسراع في هذا الأمر. بدأ الجلاد بالضرب و مازال الامام صامدا و دماؤه تسيل. و كان الشيخ هزيل الجسد, فطلب أحد الأعيان من الخليفة أن يرأف بالامام أحمد, و رجاه أن يكلم الامام عله يرجع عن قولته, فأذن له الخليفة. كتب فتنة خلق القرآن - مكتبة نور. تقدم ذاك الشخص, و يقال بانه هو نفسه اسحاق بن ابراهيم رئيس شرطة بغداد, و أخذ يكلم الامام أحمد المنهك هامساً:
-"يا أبا عبد الله, البشرى, ان أمير المؤمنين قد تاب عن مقالته, و هو يقول لا اله إلا الله"
فرد عليه الامام أحمد:
-"كلمة الإخلاص... و أنا أقول لا اله الا الله"
فقام اسحاق بن ابراهيم صائحا:
-"يا أمير المؤمنين انه قد قال كما تقول! "