بل قال شيخ الإسلام - رحمه الله - كما في الرد على البكري (2/ 736): "روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يوم بدر يقول: ((يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث))،وفي لفظ: ((أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك))". فدلت هذه الكلمات العظيمات على جملة من الأمور، ولعل من أعظمها:
1- أنه يُستغاثُ بصفات الرب كما يستغاث بذاته، وكذلك يستعاذ بصفاته كما يستعاذ بذاته. 2- أن أكمل الخَلْق أكملُهم عبودية، وأعظمهم شهودًا لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين. 3- عدم جواز الثقة بالنفس؛ ولذلك قال ابن أبي مليكة - رحمه الله -: "أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلهم يخاف النفاقَ على نفسه". 4- أهمية سؤال الله - عز وجل - باسمه الحيِّ القيُّوم، وهما الاسم الأعظم؛ كما قال غير واحد من أهل العلم [5]. معنى لا تكلني الى نفسي طرفة عين. ووالله إن تحت هذا الدعاء وأضرابه كنوزًا نعجِز عن حصرها، وفوائد يعسُرُ علينا عدها، والموفق والسعيد من وفقه العلي الحميد لتأملها واستخراجها واقتنائها، ومن حرم من ذلك فهو المحروم، فمن ذلك الذي يستطيع أن يستغني عن الله وعونه طرفة عين، والعبيد كلهم لا يخرجون من هذا؟!
اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين - بوابة الفتح
وفي هذا الحديث أيضا: يستغيث النبي -صلى الله عليه وسلم- بربه قائلا: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين). ومعنى الاستغاثة: هو نداء من يـُخلِّص من شدة أو يعين على دفع بلية، فهي طلب الغوث من الله -تعالى- على سبيل التعبد له وطلب التقرب إليه في أمر كرب أو شدة، مع إظهار التذلل والخشوع والعجز والفقر والضعف أمام الله -عز وجل-، فهي سؤال من يقدر على دفع الكرب ممن لا يقدر على دفعه. والاستغاثة نوع من العبادة التي يجب صرفها لله وحده فلا يستغاث إلا بالله، ومن استغاث بغير الله ولو كان ملكا مقربا أو نبيا مرسلا فقد أشرك بالله، فيأبى الله -تعالى- إلا أن تصرف إليه الاستغاثة، فهو -سبحانه وتعالى- المغيث ولا مغيث غيره. فعن ثابت بن الضحاك -رضي الله عنه- أنه كان في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله) أخرجه الطبراني كما في مجمع الزوائد. ولقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث الاستسقاء كان يقول: (اللهم أغثنا اللهم أغثنا.. معنى .. ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين. ) متفق عليه.
معنى لا تكلني الى نفسي طرفة عين
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها. وشرح ابن حجر قوله صلى الله عليه وسلم وكلت إليها بقوله: بضم الواو وكسر الكاف مخففا ومشددا وسكون اللام ومعنى المخفف أي صرف إليها، ومن وكل إلى نفسه هلك، ومنه في الدعاء: ولا تكلني إلى نفسي. ووكل أمره إلى فلان صرفه إليه، ووكله بالتشديد استحفظه، ومعنى الحديث: أن من طلب الإمارة فأعطيها تركت إعانته عليها من أجل حرصه. ومن خلال ما سبق يتضح أن لا تعارض بين كون الله تعالى حي قيوم وبين أن يكل الإنسان إلى نفسه أي أن يترك إعانته، ويكون معنى لا تكلني إلى نفسي، أي لا تترك إعانتي ففيه طلب الإعانة من الله تعالى في كل لحظة، والمؤمن مأمور بطلب الإعانة من الله في كل حين كما في قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ {الفاتحة: 5} وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: إني لأحبك، لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا - أحمد قوشتي عبد الرحيم - طريق الإسلام. رواه أبو داود والنسائي وصححه الألباني. وللمزيد من الفائدة راجع الفتوى رقم: 51438.
ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا
ودلّ هذا الدعاء المبارك على أهمية التوسل بصفات اللَّه تعالى في كل ما يرجوه العبد ويخافه، وخاصة صفة الرحمة؛ فإن لها تأثيراً عظيماً في تفريج الهموم والغموم. قوله: (( اللَّهم رحمتك أرجو))؛ فإن من مقتضيات رحمته تعالى، وثمراتها الإحسان والإنعام، وزوال الأوهام والأحزان. ( [1]) أبو داود، كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح، برقم 5090، وأحمد، 34/ 75، برقم 20430، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، 3/ 250، وفي صحيح الأدب المفرد، 260، وقد حسن إسناده أيضاً العلامة ابن باز في تحفة الأخيار، ص 24. ( [2]) فيض القدير، 3/ 526. ( [3]) العلم الهيب في شرح الكلم الطيب، ص 335. ( [4]) المصدر نفسه. ( [5]) سورة الأنبياء، الآية: 87. ( [6]) أخرجه النسائي في الكبرى، كتاب الجمعة، باب الصلاة بعد الجمعة، 6/168، برقم 10416، الحاكم، 1/505 ، رقم 1864، والدعوات الكبير للبيهقي، ص 125، وابن عساكر، 45/38، وصحح إسناده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 4 / 243. وانظر: العلم الهيب، ص 339. ( [7]) العلم الهيب، ص 339. ( [8]) سورة الأعراف، الآية: 156. ( [9]) فيض القدير، 3/ 526.
ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا - أحمد قوشتي عبد الرحيم - طريق الإسلام
وقال أيضًا عليه السلام لمواجهة القهر بالدعاء "اللَّهمَّ رحمتَكَ أرجو فلا تكِلْني إلى نفسي طرفةَ عينٍ وأصلِحْ لي شأني كلَّه لا إلهَ إلَّا أنتَ"، وكان عليه السلام يقول حين يشتد الكرب عليه "لا إلهَ إلا اللهُ العظيمُ الحليمُ، لا إلهَ إلا اللهُ ربُّ العرشِ العظيمِ، لا إلهَ إلا اللهُ ربُّ السماواتِ وربُّ الأرضِ، وربُّ العرشِ الكريمِ".
معنى .. ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين
وفي هذا الذكر العظيم من أذكار الصباح والمساء، والتي كان يواظب عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا ربه باسميه الحي والقيوم، فقال: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث) والحي القيوم هو: كامل الحياة، والقائم بنفسه، القيوم لأهل السماوات والأرض، القائم بتدبيرهم وأرزاقهم وجميع أحوالهم. فالله -عز وجل- الحي الباقي الذي لا يجوز عليه الموت ولا الفناء -عز وجل-، وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، كما قال -تعالى-: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ)(القصص:88)، فالله -عز وجل- هو الحي الحياة الأبدية، وجميع خلقه يموتون كما قال -تعالى-: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)(الرحمن:26-27)، فحياته -سبحانه وتعالى- أكمل حياة وأتمها، حياته الحياة التي لا يشوبها سنة ولا نوم كما قال -تعالى- عن نفسه: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ)(البقرة:255)، وقال رسوله -صلى الله عليه وسلم- عنه: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يرفع القسط ويخفضه ويرفع إليه عمل النهار بالليل وعمل الليل بالنهار) رواه مسلم. وكيف يتصور جريان النوم عليه -سبحانه وتعالى- ولا قيام للسماوات والأرض إلا به؟!
ومع ذلك كله:- فلو وكل الإنسان إلى نفسه - ليس سنة أو سنوات ، بل طرفة عين - وتولى تدبير أمره هذه الفترة اليسيرة جدا ، دون عون من الله وتوفيق ، لهلك وخاب سعيه ، وأتاه الخذلان من حيث ظن الفلاح ، وحل عليه الخسران من حيث ظن الربح. وليس المقصود مما تقدم الدعوة إلى ترك الأسباب ، أو عدم بذل الوسع ، فذلك كله واجب متحتم ، وإنما مع الأخذ بالأسباب لابد أن يتيقن ابن آدم من أن أمره كله بيد الله ، وناصيته ونفسه بيده سبحانه " وقلبه بين أصبعين من أصابعه ، يقلبه كيف يشاء ، وحياته بيده ، وموته بيده ، وسعادته بيده وشقاوته بيده ، وحركاته وسكناته وأقواله وأفعاله بإذنه ومشيئته ، فلا يتحرك إلا بإذنه ولا يفعل إلا بمشيئته. - إن وكله إلى نفسه ، وكله إلى عجز وضيعة ، وتفريط وذنب وخطيئة. - وإن وكله إلى غيره ، وكله إلى من لا يملك له ضرا ولا نفعا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. - وإن تخلى عنه ، استولى عليه عدوه ، وجعله أسيرا له. فهو لا غنى له عنه طرفة عين ، بل هو مضطر إليه على مدى الأنفاس ، في كل ذرة من ذراته باطنا وظاهرا " الفوائد لابن القيم ص 56
4
0
825