هذا وعظ وزجر وتهديد والمعنى فليتأهب من غايته للموت بالاستعداد لما بعده ومن هو راحل عن الدنيا كيف يطمئن إليها. يا محمد عش ما شئت.
- التذكير بما أوصى به جبريل عليه السلام (خطبة)
- عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ | موقع تفريغات العلامة رسلان
- وقفة مع حديث: (يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت) - قبس من نور النبوة - أخوات طريق الإسلام
التذكير بما أوصى به جبريل عليه السلام (خطبة)
﴿ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ﴾ [الكهف: 49]. وقال سبحانه: ﴿ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [الإسراء: 13، 14]. عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فانك مفارقه. فماذا تحب أن تقرأ في ذلك الكتاب الذي سطرته بأعمالك؟ أتحب أن تقرأ فيه ذنوب وجرائم، ربا وزنا، فواحش ومنكرات، ظلم غيبة نميمة؟
أم أنك تريد أن ترى كتابك فيه ما يبيض وجهك في ذلك اليوم العظيم الذي تبيض فيه وجوه وتسود وجوه؟ قال ربنا جل وعلا: ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [آل عمران: 106، 107]. ♦♦♦♦
الخطبة الثانية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. الوصية الرابعة: (واعلم أن شرف المؤمن قيامُه بالليل). ما أجمل وألد تلك اللحظات، عندما يخلو أولئك الصادقون مع رب الأرض والسموات في مدرسة الصدق والإخلاص، في مدرسة المجاهدة والتربية في ظلام الليل حيث لا يراهم ولا يطلع عليهم إلا الله جل وعلا وقد أثنى عليهم حين تركوا المضاجع والملذات من أجل الوقوف بين يديه تبارك وتعالى فقال عنهم: ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [السجدة: 16].
فلما أخفَوْا عبادتهم وقيامهم عن الناس، أخفى الله ما أعد لهم من عظيم الأجر حين يلقونه سبحانه، قال عز وجل: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 17]. وقفة مع حديث: (يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت) - قبس من نور النبوة - أخوات طريق الإسلام. فلأهلِ قيامِ الليل منزلة ً عند الله لا تدانيها منزلة، قال ربنا: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 15 - 18]. فمن أراد الشرف والرفعة فعليه بقيام الليل، وذلك بدوام الصلاة والذكر والتلاوة. فالنبي صلى الله عليه وسلم يبشر أن مِن بينِ ما يرفع منزلة المؤمن هو قيامه وصلاته بالليل، فقال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ في الجنةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُها من باطِنِها وباطِنُها من ظَاهِرِها، أَعَدَّها اللهُ تعالى لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وأَفْشَى السلامَ، وصلَّى بِالليلِ والناسُ نِيامٌ). فقيام الليل معاشر الصالحين والصالحات، من أعظم القربات إلى الله، فهو دأب الصالحين، وتجارة المؤمنين، وعمل الفائزين.
عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ | موقع تفريغات العلامة رسلان
هذه هي الحقيقة التي نسيناها بل تناسيناها. لقد كان معنا أقوام يسمعون عن الموت، ويدخلون المقابر معنا، ويخرجون معنا، ولا يظنون أن الأجل قريب؛ فما لبثوا أن جاءهم الموت فبدا لهم مالم يكونوا يحتسبون. يقول سعيد بن جبير -رحمه الله-: " لَوْ فَارَقَ ذِكْرُ الْمَوْتِ قَلْبِي خَشِيتُ أَنْ يَفْسَدَ عَلَيَّ قَلْبِي ". ويقول قَبِيْصَةُ -رحمه الله-: " مَا جَلَسْتُ مَعَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ مَجْلِسًا إِلَّا ذَكَرَ فِيهِ الْمَوْتَ وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَكْثَرَ ذِكْرًا لِلْمَوْتِ مِنْهُ ". فأين نحن من هذه المعاني؟! عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ | موقع تفريغات العلامة رسلان. أين نحن من هذه النماذج؟! أين الخائف من الله؟! أين الذي يخشى ويتذكر تلك الساعة؟! أين الذي يبكي على ما مضى من عمره وحياته؟! أين من يحاسب نفسه قبل حسرته ومماته؟! يقول ابن الجوزي -رحمه الله-: "يجب على مَن لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعدًّا، ولا يغتر بالشباب والصحة، فإن أقل من يموت الأشياخ، وأكثر من يموت الشبان، ولهذا يندر من يكبر، وقد أنشدوا. يُعَمَّرُ وَاحِدٌ فَيَغُرُّ قَوْمًا *** وَيُنْسَي مَنْ يَمُوْتُ مِنَ الشَّبَاب
وصلوا وسلموا..
وقال تعالى: ( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) [النساء: 123]. التذكير بما أوصى به جبريل عليه السلام (خطبة). وقال تعالى: ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97]. وقد ذكر الله بذلك فأعظم الذكر، فانظر إلى قوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281]. قوله: " واعلم أن شرف المؤمن
قيام الليل " فيه إشارة إلى تعويض المؤمن عما يفوته من شرف الدنيا المنهي عن الحرص عليه، فيرتفع ذكره ويشرف قدره بقيام الليل، قال تعالى: ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 16، 17]. وقال تعالى: ( كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات: 17، 18].
وقفة مع حديث: (يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت) - قبس من نور النبوة - أخوات طريق الإسلام
وروى الطبراني في معجمه الكبير من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "استغنوا عن الناس ولو بشوص السواك" [7]. قال الشاعر:
لا تسألن بني آدم حاجة
وسل الذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله
وبني آدم حين يسأل يغضب
وقال عمر - رضي الله عنه -: إن الطمع فقر، وإن اليأس غنى، إنه من ييأس عما في أيدي الناس استغنى عنهم [8]. وكان محمد بن واسع يبل الخبز اليابس بالماء ويأكل، ويقول: من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد [9]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
[1] مستدرك الحاكم (5/ 463) برقم (7991)، وقال المنذري في كتابه "الترغيب والترهيب" (1/ 485): رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن، وصححه الشيخ الألباني - رحمه الله - في صحيح الجامع الصغير برقم (73). [2] أي ضربه والمفهوم من الحديث أنه ضربه على عينه فأخرجها. [3] صحيح البخاري برقم (1339)، وصحيح مسلم برقم (2372). [4] صحيح البخاري برقم (6514)، وصحيح مسلم برقم (2960). [5] سنن الترمذي برقم (3549) وقال: هذا أصح من حديث أبي إدريس عن بلال، وصححه الألباني في إرواء الغليل (2/ 199-202) برقم (452).
وتلك هي الوصية الثانية: (أحبب من شئت فإنك مفارقه)، أَحبِب من شئت من الخلق فإنك مفارقه بموت أو غيرِه. أحبب من شئت، أحبب أخاك فإنك ستفارقه، أحبب أمك أباك فإنك ستفارقهما، أحبب زوجتك أولادك فإنك ستفارقهم، أحبب عائلتك أحبابك أصدقاءك جيرانك فإنك مفارقهم، أحبب دارك فإنك ستغادرها، أحبب ما شئت من مال أو جاه أو منصب أو غيرِ ذلك من متاع الحياة الدنيا، فإنك عما قريب ستفارقه بموت أو غيره. فيا من تعلق قلبُه بهذه الدنيا بمتاعها ولذاتها وزينتها وشهواتها، وطِّن نفسك على الفراق، واستعد للانتقال من دار إلى دار، فما من أحد في هذه الدنيا إلا وهو ضيف وما بيده فهو عارية، وحتما الضيف مرتحل والعارية مردودة. (أحبب من شئت فإنك مفارقه) وإياك أن تشغل قلبك بمتاعٍ أو شهوة من شهوات الدنيا الزائلة، فإنها إما أن تزول عنك أو أنت زائل عنها، وإنما أَشْغل قلبك بِحب من لا يُفارقك ولا تُفارقه، اشغل قلبك بالعمل الصالح الذي يحبه الله ويقرب منه تعالى، فإن ذلك يصحبك في القبر وما بعده ولن يفارقك أبدا. ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ، وَاحِدٌ يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ)، يبقى عمله ليُجزى به.