فاتقوا الدنيا ليس معنى ذلك أن يتخلى الإنسان عنها ولا يعمرها، وإنما يأخذ المال من حله، ويتصرف فيه بحله، وينفق في حله في وجوه النفقات المشروعة والمباحة فقط، ويؤدي حق الله فيه. فالنبي ﷺ كما في حديث آخر صور هذه الدنيا، لما حذر الدنيا قام رجل فقال: هل يأتي الخير بالشر؟ فصمت النبي ﷺ، ثم قال: أين السائل؟، قال: أنا، قال: لا يأتي الخير إلا بالخير، إن هذا المال خضِرةٌ حلوةٌ، وإن كل ما أنبت الربيعُ يقتل حَبَطاً أو يُلِم، إلا آكلة الخضِر أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس، فاجترّت وثَلَطت وبالت، ثم عادت فأكلت، وإن هذا المال حلوةٌ، من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع [3]. إسلام ويب - صحيح مسلم - كتاب الرقاق - باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء وبيان الفتنة بالنساء- الجزء رقم4. فالربيع: مطر ينزل ويطلع ربيع جميل، وجيد وتأكله الأنعام، والربيع خير، والحبَط: الدابة تأكل كثيراً وينتفخ بطنها ثم تموت، أو تقارب الإهلاك. إلا آكلة الخضِر، أكلت.. يعني: هذه الدابة هي التي تنجو من الموت، وتنتفع بالربيع، فهي تأكل بمقدار معين، وكذلك الذي يتهافت على الدنيا لا يقف عند حد، فتهلكه الدنيا. ولهذا قال النبي ﷺ: أيها الناس اتقوا الله، وأجملوا في الطلب، فإن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها [4] ، يعني: لا داعي للتهافت والتهالك عليها، اتق الله، خذه من حله، سيأتيك رزقك، لا تأخذ من هنا وهناك مما لا يحل.
إسلام ويب - صحيح مسلم - كتاب الرقاق - باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء وبيان الفتنة بالنساء- الجزء رقم4
فالدُّنيا حُلوةٌ في مَذاقِها، خَضْرةٌ في مَرآها، فيَغْتَرُّ الإنسانُ بها ويَنْهَمِكُ فيها ويَجعلُها أَكبَرَ هَمِّه. ان الدنيا حلوه خضره وان الله مستخلفكم. ولكنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَيَّنَ أنَّ اللهَ سُبحانَه وتَعالى مُستَخْلِفُنا فيها فَيَنْظُرُ كيفَ نَعمَلُ؛ هل نقوم بطاعتِه، وننْهَى النَّفسَ عنِ الهَوَى، ونقوم بِما أَوجَبَ اللهُ علينا، ولا نغتَرُّ بالدُّنيا، أو أنَّ الأمرَ بالعَكْسِ؟ ولهذا قال: (فاتَّقُوا الدُّنيا)، أي: قُوموا بِما أَمرَكم به، واتْرُكوا ما نَهاكُم عنه، ولا تَغُرَّنَّكم حَلاوَةُ الدُّنيا ونَضْرَتُها. كما قال تَعالى: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (لقمان: 33). (وَاتَّقُوا النِّساءَ)، فَاحذَروا أن تَميلوا إلى النِّساءِ بِالحَرامِ، أو تَنْساقُوا وَراءَ النِّساءِ وفِتنَتِهنَّ؛ فإنَّ أَوَّلَ فِتنةِ بَني إسرائيلَ كانت في النِّساءِ، فافْتَتَنُوا في النِّساءِ، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا. وفي الحديثِ: الحثُّ على مُلازمَةِ التَّقوَى، وعَدمِ الانْشِغالِ بِظَواهرِ الدُّنيا وزِينَتِها.
الدنيا حلوة خضرة الاسم المقصور هنا - عربي نت
وإذا نظر الإنسان إلى الكفار وما هم فيه من النعيم والتمكين، قد ذللت لهم الدنيا تذليلاً، إذا نظرت إلى مراكبهم، وإلى طرقهم ومساكنهم وحدائقهم، وإلى ما يتنعمون فيه من ألوان المرافق، والتسهيلات في أمور الحياة الدنيا، الإنسان تأتيه حاجته من غير تعب، تصل إلى بيته، كل ما أراد من أمور رسمية، ومن غير رسمية، البريد، والجوازات، والرخصة، وما إلى ذلك، وهو في بيته تصل إليه، أضف إلى ذلك ما يحصل من الكفالة للفقير والأرملة والإنسان الذي لا يعمل، فيُعطَى المسكن الذي يتخيره، وتُجرى عليه نفقة، ذُللت لهم الحياة، وما يتنعمون به فوق ذلك من الأجواء الجميلة غالباً، والأمطار سحّاء شتاء وصيفاً. فإذا نظر الإنسان إلى مثل هذه الأشياء، وقارن حال أولئك بحال كثير من المسلمين الذي يتشحطون في الفقر، أستاذ جامعي راتبه مائتان وخمسون ريالاً في بعض البلاد الإسلامية، خريج الجامعة لربما لا يجد مائة وخمسين ريالاً راتباً، ماذا يعمل له؟ كيف يقيم أسرة؟. الكثير من البلدان يعيشون في فقر يكسر ظهورهم، والكفار يتنعمون بألوان النعم والترف، وإذا نظرت إلى متوسط دخل الفرد عندهم وجدت أن أغنى الناس في بعض البلاد الإسلامية لا يصل إلى دخل الإنسان المتوسط في تلك البلاد، بل لربما كان الوزير في بعض البلاد الإسلامية لا يتقاضى ما يتقاضاه الموظف العادي في بعض تلك البلاد.
الأمر الثاني: أنها سريعة الزوال، لأن الخضرة لا تلبث أن تفسد أن تيبس أو تضمحل. فليأخذ المرء حظه منها، ويرضى به، فالرضا أعظم المقامات الإيمانية على الإطلاق، ليس بعده مقام يطلب، والراضون هم خير البرية، وهم الذين بدأهم الله بالرضا، فكان الفضل منه أولاً وآخراً. واقرأ بتأمل – إن شئت – قول الله تبارك وتعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (سورة البينة: 7-8). وقوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –: " وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا " معناه أن الله تبارك وتعالى قد خلق آدم وذريته لعمارة الأرض وإصلاحها مع التفرغ لعبادته والإخلاص فيها، واعتبار العمل الصالح جزءاً منها. وإصلاح الأرض وعمارتها عمل صالح يقوم على التوحيد الخالص، وبذلك يكون لهذا العمل قدرة وقيمة، وإلا كان هباءً لا خير فيه، ولا طائل تحته. { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (سورة الأنعام: 162-163).