وقيل: إن ذلك الكتاب إشارة إلى التوراة والإنجيل كليهما; والمعنى: الم ذانك الكتابان أو مثل ذينك الكتابين; أي: هذا القرآن جامع لما في ذينك الكتابين; فعبر ب ( ذلك) عن الاثنين بشاهد من القرآن; قال الله تبارك وتعالى: إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك أي عوان بين تينك: الفارض والبكر; وسيأتي. وقيل: إن ذلك إشارة إلى اللوح المحفوظ. وقال الكسائي: ذلك إشارة إلى القرآن الذي في السماء لم ينزل بعد. وقيل: إن الله تعالى قد كان وعد أهل الكتاب أن ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم كتابا; فالإشارة إلى ذلك الوعد. قال المبرد: المعنى هذا القرآن ذلك الكتاب الذي كنتم تستفتحون به على الذين كفروا. وقيل: إلى حروف المعجم في قول من قال: ( الم) الحروف التي تحديتكم بالنظم منها. والكتاب مصدر من كتب يكتب إذا جمع; ومنه قيل: كتيبة; لاجتماعها. وتكتبت الخيل صارت كتائب. وكتبت البغلة: إذا جمعت بين شفري رحمها بحلقة أو سير; قال: لا تأمنن فزاريا حللت به على قلوصك واكتبها بأسيار والكتبة ( بضم الكاف): الخرزة ، والجمع كتب. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى. والكتب: الخرز. قال ذو الرمة: وفراء غرفية أثأى خوارزها مشلشل ضيعته بينها الكتب والكتاب: هو خط الكاتب حروف المعجم مجموعة أو متفرقة; وسمي كتابا وإن كان مكتوبا; كما قال الشاعر: تؤمل رجعة مني وفيها كتاب مثل ما لصق الغراء والكتاب: الفرض والحكم والقدر; قال الجعدي: يا بنة عمي كتاب الله أخرجني عنكم وهل أمنعن الله ما فعلا قوله تعالى: لا ريب نفي عام; ولذلك نصب الريب به.
- ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى
- ذلك الكتاب لا ريب فيه اعراب
- ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه
- ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين تفسير
ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى
﴿ذلك الكتاب لا ريب فيه﴾ منذ أول سورة بعد فاتحة الكتاب، وعند أول موضع لذكر كتابه الكريم، في أول آيتين كريمتين يأتي الإعلان الإلهي والتحدي الكبير: ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين. تحدٍّ كبير لكل مشكك ومرتاب.. أي كتاب هذا الذي يأتي من أول سطر في ثاني صفحاته ليتحدى قارئه بأنه لا ريب فيه؟! ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين تفسير. ﴿ذلك الكتاب لا ريب فيه﴾ اعتاد الدعاة والوعاظ و مفسرو الكتاب على القول: كانت معجزة موسى العصا ليهزم ما تفوّق به الفراعنة من سحر، ومعجزة عيسى الطب وعلاج المرضى لأن قومه برعوا في الطب، ومعجزة محمد القرآن الكريم لأن العرب تميزوا بالفصاحة والبيان.. والقرآن كذلك، ولكن ليست معجزة القرآن محصورة بالفصاحة والبيان، فإن حصرها بذلك تقليل من شأنه وشأن هذا النبي العظيم، بل القرآن معجزة خالدة. محمد لم يرسل لقومه فقط هو رسول للبشرية كلها.. بل هو آخر رسل السماء إلى الأرض بإنسها وجانها، وهذا القرآن كتاب صالح ـ ومصلح ـ لكل زمان ومكان.. «رسالة» موجهة لكل إنسان سواء كان يسكن كوخاً متهالكاً في أدغال إفريقيا أو شقة فاخرة في ناطحة سحاب في مانهاتن! نظرة قاصرة تلك التي ترى أن القرآن بفصاحته وبيانه ولغته أتى – فقط – ليهزم به محمد فصحاء العرب ويعجزهم!
ذلك الكتاب لا ريب فيه اعراب
وقوله: ( وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين) أي: وبيان الأحكام والحلال والحرام ، بيانا شافيا كافيا حقا لا مرية فيه من الله رب العالمين ، كما تقدم في حديث الحارث الأعور ، عن علي بن أبي طالب: " فيه خبر ما قبلكم ، ونبأ ما بعدكم ، وفصل ما بينكم " ، أي: خبر عما سلف وعما سيأتي ، وحكم فيما بين الناس بالشرع الذي يحبه الله ويرضاه.
ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه
وروي عن أبي روق أنه قال: هدى للمتقين أي: كرامة لهم; يعني إنما أضاف إليهم إجلالا لهم وكرامة لهم وبيانا لفضلهم. وأصل ( للمتقين): للموتقيين بياءين مخففتين ، حذفت الكسرة من الياء الأولى لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين وأبدلت الواو تاء على أصلهم في اجتماع الواو والتاء وأدغمت التاء في التاء فصار للمتقين. الخامسة: التقوى يقال أصلها في اللغة قلة الكلام; حكاه ابن فارس. تفسير: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين). قلت: ومنه الحديث التقي ملجم ، والمتقي فوق المؤمن والطائع وهو الذي يتقي بصالح عمله وخالص دعائه عذاب الله تعالى ، مأخوذ من اتقاء المكروه بما تجعله حاجزا بينك وبينه; كما قال النابغة: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد وقال آخر: فألقت قناعا دونه الشمس واتقت بأحسن موصولين كف ومعصم وخرج أبو محمد عبد الغني الحافظ من حديث سعيد بن زربي أبي عبيدة عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود قال: قال يوما لابن أخيه: يابن أخي ترى الناس ما أكثرهم ؟ قال: نعم; قال: لا خير فيهم إلا تائب أو تقي ثم قال: يابن أخي ترى الناس ما أكثرهم ؟ قلت: بلى; قال: لا خير فيهم إلا عالم أو متعلم. وقال أبو يزيد البسطامي: المتقي من إذا قال قال لله ، ومن إذا عمل عمل لله.
ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين تفسير
ابن كثير: وقوله: ( تنزيل الكتاب لا ريب فيه) أي: لا شك فيه ولا مرية أنه نزل ، ( من رب العالمين). القرطبى: قوله تعالى: ( الم تنزيل الكتاب) الإجماع على رفع ( تنزيل الكتاب) ولو كان منصوبا على المصدر لجاز; كما قرأ الكوفيون: إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم. و ( تنزيل) رفع بالابتداء والخبر ( لا ريب فيه). أو خبر على إضمار مبتدأ; أي هذا ( تنزيل) ، أو المتلو ( تنزيل) ، أو هذه الحروف ( تنزيل). ودلت: ( الم) على ذكر الحروف. ويجوز أن يكون ( لا ريب فيه) في موضع الحال من الكتاب ، و ( من رب العالمين) الخبر. قال مكي: وهو أحسنها. ماهو الكتاب الوحيد الذي لا ريب فيه ولاشك ؟. ومعنى لا ريب فيه من رب العالمين لا شك فيه أنه من عند الله; فليس بسحر ولا شعر ولا كهانة ولا أساطير الأولين. الطبرى: وقوله: (تَنـزيلُ الكتاب لا رَيْبَ فِيهِ) يقول تعالى ذكره: تنـزيل الكتاب الذي نـزل على محمد صلى الله عليه وسلم، لا شكّ فيه (من ربّ العالمين): يقول: من ربّ الثقلين: الجنّ والإنس. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: (الم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ) لا شكّ فيه. وإنما معنى الكلام: أن هذا القرآن الذي أُنـزل على محمد لا شكّ فيه أنه من عند الله، وليس بشعر ولا سجع كاهن، ولا هو مما تخرّصه محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما كذّب جلّ ثناؤه بذلك قول الذين: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا وقول الذين قالو: إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ.
وقال أبو سليمان الداراني: المتقون الذين نزع الله عن قلوبهم حب الشهوات. وقيل: المتقي الذي اتقى الشرك وبرئ من النفاق. قال ابن عطية: وهذا فاسد; لأنه قد يكون كذلك وهو فاسق. وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبيا عن التقوى; فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك ؟ قال: نعم: قال فما عملت فيه ؟ قال: تشمرت وحذرت; قال: فذاك التقوى.