وقرأ ابن عامر ( ولدار الآخرة) بلام الابتداء فقط وبإضافة ( دار) منكرة إلى الآخرة فهو من إضافة الموصوف إلى الصفة ، كقولهم: مسجد الجامع ، أو هو على تقدير مضاف تكون ( الآخرة) وصفا له. والتقدير: دار الحياة الآخرة. و ( خير) تفضيل على الدنيا باعتبار ما في الدنيا من نعيم عاجل زائل يلحق معظمه مؤاخذة وعذاب. وقوله للذين يتقون تعريض بالمشركين بأنهم صائرون إلى الآخرة لكنها ليست لهم بخير مما كانوا في الدنيا. والمراد بالذين يتقون المؤمنون التابعون لما أمر الله به ، كقوله تعالى: هدى للمتقين ، فإن الآخرة لهؤلاء خير محض. وأما من تلحقهم مؤاخذة على أعمالهم السيئة من المؤمنين فلما كان مصيرهم بعد إلى الجنة كانت الآخرة خيرا لهم من الدنيا. انما تقضي هذه الحياة الدنيا. وقوله أفلا تعقلون عطف بالفاء على جملة وما الحياة الدنيا إلى آخرها لأنه يتفرع عليه مضمون الجملة المعطوفة. والاستفهام عن عدم عقلهم مستعمل في التوبيخ إن كان خطابا للمشركين ، أو في التحذير إن كان خطابا للمؤمنين. على أنه لما كان استعماله في أحد هذين على وجه الكناية صح أن يراد منه الأمران باعتبار كلا الفريقين ، لأن المدلولات الكنائية تتعدد ولا يلزم من تعددها الاشتراك ، لأن دلالتها التزامية ، على أننا نلتزم استعمال المشترك في معنييه.
انما تقضي هذه الحياة الدنيا
ولما كان هذا المثل دالا على زوال الدنيا وانقضائها وفراغها لا محالة ، وأن الآخرة كائنة لا محالة ، حذر من أمرها ورغب فيما فيها من الخير ، فقال: ( وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) أي: وليس في الآخرة الآتية القريبة إلا إما هذا وإما هذا: إما عذاب شديد ، وإما مغفرة من الله ورضوان. وقوله: ( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) أي: هي متاع فان غار لمن ركن إليه فإنه يغتر بها وتعجبه حتى يعتقد أنه لا دار سواها ولا معاد وراءها ، وهي حقيرة قليلة بالنسبة إلى الدار الآخرة. قال ابن جرير: حدثنا علي ابن حرب الموصلي ، حدثنا المحاربي ، حدثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها. اقرءوا: ( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) وهذا الحديث ثابت في الصحيح بدون هذه الزيادة والله أعلم. · ما هي الحياة الدنيا؟. وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير ، ووكيع ، كلاهما عن الأعمش ، عن شقيق ، عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " للجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله ، والنار مثل ذلك ". انفرد بإخراجه البخاري في " الرقاق " ، من حديث الثوري ، عن الأعمش به ففي هذا الحديث دليل على اقتراب الخير والشر من الإنسان ، وإذا كان الأمر كذلك; فلهذا حثه الله على المبادرة إلى الخيرات ، من فعل الطاعات ، وترك المحرمات ، التي تكفر عنه الذنوب والزلات ، وتحصل له الثواب والدرجات
واعلموا انما الحياة الدنيا
واللهو: صرف النفس عن الجد إلى الهزل (تفسير أبي حيان 4/ 484). وبيّن ابن القيم في تفسيره 6/437 أن اللعب للجوارح، واللهو للقلب: (لاهيةً قلوبُهم) الأنبياء 3. على أن الفقهاء ذهبوا إلى أن اللعب واللهو ليسا مذمومين دائمًا. فهناك ما هو محمود، كالألعاب والمسابقات التي تعين على الجهاد أو على العلم. وهناك ما هو مباح، وما هو مذموم. وللمفسرين في هذه الآية قولان: قول بأن المقصود هنا هو حياة الكافر، والقول الآخر بأن المقصود عام بحيث يشمل حياة المؤمن والكافر معًا. إن الإخبار عن الحياة الدنيا بأنها لعب ولهو ليس تفسيره سهلاً، سواء كانت هذه الحياة تخص المؤمن أو المؤمن والكافر معًا. ذلك لأن المؤمن ليست جميع أعماله في الحياة الدنيا من هذا القبيل، ولاسيما على فرض أن اللعب واللهو منه ما هو محمود. كذلك الكافر قد لا تكون حياته كلها من هذا الباب. لعل المقصود هنا هو عقد مقارنة بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة. فالحياة الدنيا تبدو بالنسبة للآخرة أنها لا تعدو أن تكون مجرد لعب ولهو. فالآخرة أفضل (إذا تعلقت بالجنة، وأسوأ إذا تعلقت بالنار)، وأكثر، وأيقن، وأدوم. اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال - الآية 20 سورة الحديد. فخيرات الجنة غير محدودة، وخيرات الدنيا محدودة. قال تعالى: (فما متاع ُالحياةِ الدنيا في الآخرةِ إلا قليلٌ) التوبة 38.
انما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن الدار الآخرة
فالمؤمن يسابق الزمن في هذه الحياة ليجني الحسنات ويتقرب إلى الله كي يفوز في هذا الاختبار، أما الغافل فتمر معظم سنين حياته لغايات تافهة وفارغة، فلا يفهم بوضوح لأي غاية يعيش هذه السنين الطوال. ففي فترة ما يعيش من أجل اللعب واللهو وفي فترة أخرى يعيش من شهوات وملذات أخرى، وتارة من أجل أولاده، وهكذا إلى أن يقترب الموت منه ويوشك على الرحيل عن هذه الدنيا.. وماذا بعد ذلك؟... ماذا سيحدث بعد ذلك؟ لا يدري... ولكن بالتأكيد سينتهي كل شيء. انما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن الدار الآخرة. ولو أنا إذا متنا تُركنا:. لكانَ المَوْتُ راحَة َ كُلِّ حَيِّ
ولكنا إذا متنا بُعثنا:. ونُسأل بعد ذا عن كل شي. قال النبي (من جعل الهموم هما واحدا، هم المعاد، كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به الهموم من أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك) رواه ابن ماجة وحسنه الألباني. وقد كثر في القرآن ضرب الأمثال للحياة الدنيا والتعريف بها ووصفها والهدف منها ومن خلق البشر حتى لا يغتر البشر بهذه الدنيا كما قال تعالى (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (الحديد:20)
ولعله يأتي ذكر بعض هذه الأمثلة والأوصاف للدنيا في القرآن والسنة.
وخيرات الجنة متيقنة، وخيرات الدنيا مظنونة، قابلة للزيادة والنقصان والزوال. والحياة الآخرة خلود، والحياة الدنيا أمرها محدود. والدنيا هزل، والآخرة جدّ. هكذا تبدو الأولى بالنسبة للأخرى. قال تعالى: (إنّ الدارَ الآخرةَ لهيَ الحيوانُ لو كانُوا يَعلمونَ) العنكبوت 64، أي: هي الحياة الحقيقية والجادّة التي يجب أن يسعى إليها الإنسان في الحياة الدنيا. قال تعالى: (وما الحياةُ الدنيا إلا متاعُ الغُرورِ) الحديد 20. وقال أيضًا: (وذرِ الذينَ اتّخذُوا دينَهم لَعِبًا ولهوًا وغرّتهمُ الحياةُ الدنيا) الأنعام 70. فإذا لم يعمرها الإنسان بالجد والعمل والسعي والاستقامة، فلا شك أنه سيصبح نادمًا. إن الإنسان مفطور بطبيعته على تفضيل العاجل على الآجل. فهو يرى أن: "الدنيا نقد، والآخرة نسيئة، والنقد خير من النسيئة. ولذات الدنيا يقين، ولذات الآخرة شك، ولا يُترك اليقين بالشك" (الكشف والتبيين في غرور الخلق للغزالي ص 12). تفسير قوله تعالى..إنما الحياة الدنيا لعب ولهو.. - إسلام ويب - مركز الفتوى. قال تعالى: (كلا بل تُحبّونَ العاجلةَ وتذَرونَ الآخرةَ) القيامة 20. وقال أيضًا: (بل تؤثرونَ الحياةَ الدنيا والآخرةُ خيرٌ وأبقى) الأعلى 16 – 17، أي هي خير نوعًا وكمًا، وأدوم زمنـًا. ولأجل هذه الفطرة، جعل الله الآخرة أفضل وأدوم، وثقـَّل جزاءها، لتحويل الناس من تفضيل الدنيا إلى تفضيل الآخرة، ولإغرائهم بالسعي في الدنيا للآخرة.
وإنما أنزل إليها آدم عقوبة فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإن الزاد منها تركها والغني فيها فقرها، فهي تذلّ من أعزّها وتفقر من جمعها.