فحالة التثاقف التي حدثت بين المُبدع بصفته ممثّلًا لحضارة غربية ذات طابع ديني وعقدي وإثني وأيديولوجي، وبين مدينة إسطنبول بصفتها ذات طابع ديني وعقدي وإثني وأيديولوجي مختلف؛ هي الجسر المستقبلي المنشود بين الشرق والغرب. أو هي - بلغة أخرى - الرؤية التي تكمن وراء النص. أمّا الطبقة الثالثة، فهي الرواية ذاتها بما هي الجسر الذي عجز الشرق والغرب عن بنائه على أرض الواقع على مدار قرون طويلة، فبناه ماتياس إينار في الخيال على شكل رواية. بعد الغياب رواية. فالخيال - والحالة هذه منزع إنساني عظيم - يسعى إلى تجسير الهوّة بين عالمين بقدر ما هما قريبان عن بعضهما البعض بقدر ما هما بعيدان ومتباعدان. فدائمًا، لكي يتغيّر الواقع، لا بُدَّ من التأسيس لهذا التغيير في الخيال أولًا، أو يمكن القول: إن تغيير ما في الأعيان يتطلّب تغيير ما في الأذهان ابتداءً، وفقًا للمقولة العربية القديمة. * كاتب من الأردن
كتب
التحديثات الحية
بسّام كوسا يغيب عن رمضان ويحضر في رواية “أكثر بكثير”- (فيديو) | القدس العربي
يتابع الروائي سرد تفاصيل إقامة النحَّات في حاضرة العالَم يومذاك، والعلاقات الإنسانية والعملية التي جمعته بجُملة من الأشخاص (وزراء في بلاط الخليفة، مترجم، مهندسون، حِرفيون، راقصون، خدم، معشوقة... ) والأشياء (أحبار، قراطيس، أدوات هندسية، قرود، شوارع المدينة، موانيها، مراكبها، خناجر، فيلة... ) والأفكار (التصاميم المبهرة في "آيا صوفيا"، الشجن في أصوات المؤذنين في المساجد... )، إلى أن يصل به الأمر إلى وضع تصاميم مُحْكَمة للجسر الذي عمل المهندسون والحرفيون والعمّال على الشروع في تحويله من فكرة إلى واقع. رواية بعد الغياب. ومن ثمَّ عودته إلى إيطاليا والذكريات التي بقيت عالقة في رأس النحَّات حتى زمن متقدّم من عمره. فالحدث الرئيسي ـ وهو مُجمل الرواية - يسرده الروائي على هيئةِ حكايةٍ بسيطة تتدفّق فيها الأحداث من دون عناء أو حمولات لغوية زائدة، بما يجعل من قراءتها عملًا سلسًا ومُمتعًا. أمّا الطبقة الثانية من النصِّ، فهي تأويل تلك الفكرة. ذلك أنَّ الفكرة المنشودة من الرواية تسلتزم بناء جسر بين نسقين حضاريين مختلفين. فالحضارة، بمعناها العميق، نِتاج تلاقح حيوات عديدة وكثيرة؛ حيوات تُحوِّل خلافاتها الدينية والسياسية والأيديولوجية والوطنية والقومية والإثنية إلى اختلافات إبداعية، بعد أن تصهرها في قانون ناظم وحامٍ للاجتماع السياسي.
مثلما تقوم فكرة رواية " حدّثهم عن المعارك وعن الملوك وعن الفيلة " للكاتب الفرنسي ماتياس إينار (1972) على استدعاء النحَّات الإيطالي مايكل أنجلو من قبل السلطان العثماني بايزيد الثاني في العام 1506م لبناء جسر في إسطنبول؛ فإنَّ الفكرة الموازية أو الفكرة المنشودة للرواية تقوم على تبنِّي مقولة بناء جسر واصل بين الشرق والغرب، أو بين نسقين حضاريين يمكن تضييق خلافاتهما المُدمِّرة إلى الحدّ الأقصى، وتوسيع اختلافاتهما المُثمرة إلى الحدّ الأقصى أيضًا. الفكرة الإبداعية أنَّ الرواية ذاتها - التي ترجمتها إلى العربية أمال. بسّام كوسا يغيب عن رمضان ويحضر في رواية “أكثر بكثير”- (فيديو) | القدس العربي. ن. الحلبي وصدرت بداية هذا العام عن "دار التنوير" - هي الجسر الواصل بين الشرق والغرب ؛ فما عُجز عن علاجه في الواقع يُطبَّب بالخيال. الفكرة الأولى، أو الفكرة الأساسية للرواية، تقوم على استدعاء مايكل أنجلو لبناء جسر سيتعرَّض إلى الهدم، وفقًا لما تسرده الرواية، التي لا تتقاطع بالضرورة مع الوقائع التاريخية. ففي "الرابع عشر من أيلول 1509م، وفي لحظة افتتاح مايكل أنجلو ورشة العمل في كنيسة سيستين، ضرب زلزال مخيف مدينة إسطنبول"، وقد كان الدمار قد لحق بجسر مايكل أنجلو، "الذي كانت دعامته وأعمدته قد بُنيت، وكذلك عدد من القناطر الأولية.