الساعة الثالثة صباحاً.. كانت ثويبة تعتقد في إشارات الساعة، وخاصة الحادية عشر وإحدى عشرة دقيقة. أربعة خطوط متوازية تفصل بين كل زوجين منها نقطتان أفقيتان. كانت تمد هاتفها وتتحدث عيناها الضاحكتان. ولم أكن أفهم شيئاً. "إنني أشعر بالذنب بلا سبب معقول" قلت بارتباك لنفسي، وحاولت استعادة النوم لكنني لم أفلح. (٣)
من الوزارة اتجهت بقدمي نحو الجسر، كان تحته متحف عسكري، في مقدمته طائرة قديمة، لا تبدو طائرة عسكرية، ثم إلى الخلف قليلاً تقبع دبابة تم دهنها -بسذاجة- بلون أخضر ولماع فبدت كلعبة أطفال. كان المتحف خالياً تقريباً وأخبرني الشاب البائس الذي ينام على أريكة في غرفة الإستقبال المتهالكة بأن الصالات مغلقة ويمكنني أن أعاود الزيارة غداً. كان أكثر يأساً من كفاح لكنه مشذب الذقن والشارب والحاجبين. رغبتي لم تكن في رؤية الأسلحة، وإنما في طرد ذلك الشعور بالمقت لنفسي، فغادرت الصالة واتجهت إلى الجسر المحاط بالسياجات الفولاذية المتينة، حيث تحته مباشرة يرتمي النهر خامداً بسبب الصيف، لكنه كان أنظف منه في فصل الخريف، كانت ثويبة ترفض النزول فيه لأنه قذر. كرسي قيمنق ومكتبي - كراسي العاب قيمرز رخيص. كانت تعتقد أنه نهر قذر.. وكانت.. كانت تتخيل أن جثة متحللة ستطفوا من قعره الطيني اللزج فجأة.
كرسي قيمنق ومكتبي - كراسي العاب قيمرز رخيص
هممت بإخراج ماكينة الحلاقة حين رأيته يشيح بوجهه ويغادر. علمت فيما بعد بأنه قد فقد عقله، وازداد شعر وجهه كثافة، ثم فقد ما يستره من ملابس وسار في رحاب الله لا يلوي على شيء. مضى أسبوعان بلا ثويبة، فحلقت شعري أنا، حلقته بالكامل، شعر الراس والشارب واللحية وحتى الحاجبين والإبطين والعانة، وكأنما أحاول ولادة نفسي من جديد. الأشياء السيئة تأتي.. الأشياء السيئة تذهب.. لذلك خرجت فرأيته في زقاق ضيق، كان ذكره منتصباً كآلهة قديمة، تقدم نحوي وهو يستمني. - ابتعد..
ثم رفعت حجراً وهددته به لكنه لم يعبأ بل استمر.. قذفته بالحجر فأصابه ودميت عينه اليسرى، لكنه مع ذلك لم يتوقف.. كراسي قيمنق رخيصه. بعدها طوقني من الخلف بذراعين قويين، ذراعا مجنون، وبدأ في خنقي. حاولت الإفلات منه لكنه لم يتوقف إلا حين صرخت.. ورأيت سقف الغرفة..
دقت التاسعة صباحاً، الساعة المعلقة على الجدار، ثم دقت في العاشرة، ثم في الحادية عشر.. حينها أشارت لي الفتاة برأسها فدخلت عليه. وجدته يفتح النافذة، عاد وجلس ثم نظر نحوي وقال:
- من مات مرة أخرى؟
قلت:
- لم يمت.. لقد أصيب بالجنون..
قال:
- ستفقد الكثير ممن تحبهم.. عليك أن تكون أكثر قوة من هذا.. لا يوجد بروتوكول يمنعني من نصحك بذلك..
(٨)
استلم جواز سفره الأزرق، جواز سفر بحري.
وقال رئيس الطاقم:
- العمل في البحر شاق جداً خاصة في سفن الشحن.. الربان هنا ليس فقط قائد سفينة بل رجل القانون الأول.. مع ذلك فكل شيء يسير على ما يرام..
كان البحر شديد الكآبة، خاصة عند الفجر والغروب وهو يحاصر السفينة من كل اتجاه. كرسي قيمنق رخيصة. النجوم تزداد لمعاناً وتشع كوجه ثويبة في تلك اللحظات الحميمة. يلف الكون نواح الموج كقرقعة معدة جائعة، ولا شيء في الأفق. - هل سنصل إلى جزيرة الكنز؟
يسأل نفسه، ويرى في أحلامه جزيرة خالية من وجوه البشر. لا أحد ممن عرفهم، لا أحد ممن أحبهم.. فيشعر بالسلام..
(تمت)
هذا الموقع يعتمد على ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماته، الاستمرار في تصفح الموقع يعني موافقتك على استخدام هذه الملفات.