الشق الثاني- اليمين على المنكر: ومضمون هذه الشق من القاعدة انه اذا لم يستطع المدعي اقامة البينة على ما ادعاه وانقطعت به السبل عن امكانية الوصول الى اقناع القاضي بصحة دعواه، فلا يبقى امامه خيار سوى الاحتكام الى ضمير المدعي عليه وذمته، عسى ينطق بالحق فيعترف به، ومن هذا الاساس جاءت اهمية توجيه اليمين. فكأن الطرفين اتفقا الى اشهاد الله سبحانه وتعالى على صحة دعواهما. وقوة اليمين تكمن في اداء المدعي عليه اياه من اجل المحافظة على حقه من الضياع اذا كان صادقا، وان كان كاذبا فقد ارتكب احدى الكبائر التي تستوجب غضب الله في الدنيا والاخرة. قال تعالى (ان الذين يشترون بعهد الله وايمانهم ثمنا قليلا اولئك لا خلاق لهم في الاخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر اليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم) (4). وعن رسول الله (ص) انه قال: (الكبائر الاشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس) (5). قاعدة البينة على المدعي. وسبب تكليف المدعي عليه باليمين هو احتمالية ان يكون الحق عكس ظاهر الحال، فهذا الظاهر لا يسنده الا ظنا قوياً. فكانت الحاجة ضرورية لهذا اليمين لقطع الشك باليقين(6) اما عن ادلة مشروعية قاعدة (البينة على من ادعى واليمين على من انكر) فقد استدل فقهاء الامة الاسلامية على مشروعية هذه القاعدة الفقهية من الكتاب والسنة والاجماع.
قاعدة البينة على المدعي واليمين على من أنكر
عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: "لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدعوَاهُمْ لادَّعَى رِجَالٌ أَمْوَال قَومٍ وَدِمَاءهُمْ، وَلَكِنِ البَينَةُ عَلَى المُدَّعِي، وَاليَمينُ عَلَى مَن أَنكَر" حديث حسن رواه البيهقي هكذا بعضه في الصحيحين. قوله: (لَو يُعطَى) المعطي هو من له حق الإعطاء كالقاضي مثلاً والمصلح بين الناس. وقوله: (بِدَعوَاهُم) أي بادعائهم الشيء،سواء كان إثباتاً أو نفياً. قوله: (لادعى) هذا جواب "لَو" قوله: (لادعَى رِجَال) المراد بهم الذين لا يخافون الله تعالى،وأما من خاف الله تعالى فلن يدعي ما ليس له من مال أو دم، (أَموَال قَوم) أي بأن يقول هذا لي، هذا وجه. ووجه آخر أن يقول: في ذمة هذا الرجل لي كذا وكذا ، فيدعي ديناً أو عيناً. حديث ابن عباس البينة على المدعي. قوله: (وَدِمَاءهُم) بأن يقول: هذا قتل أبي، هذا قتل أخي وما أشبه ذلك، أو يقول: هذا جرحني، فإن هذا نوع من الدماء. قوله: (وَلَكِنِ البَينَةُ) البينة:ما يبين به الحق، وتكون في إثبات الدعوى (عَلَى المُدَعي) (وَاليَمين) أي دفع الدعوى (عَلَى مَنْ أَنكَر). فهنا مدعٍ ومدعىً عليه، والمدعي: عليه البينة، والمدعى عليه: عليه اليمين ليدفع الدعوى.
فالحديث يبيّن أن مجرد ادعاء الحق على الخصم لا يكفي،
إذا لم تكن هذه الدعوى مصحوبة ببينة تبين صحة هذه الدعوى ، كما قال النبي صلى الله
عليه وسلم: "لكن البيّنة على المدّعي". فإذا افتقرت هذه الخصومة إلى بينة تدل على الحق، أو لم
تكتمل الأدلة على صحتها ، توجه القاضي إلى المدعى عليه، وقد سماه النبي صلى الله
عليه وسلم في هذا الحديث بالمنكر، والمقصود أنه ينكر الحق الذي يطالبه به خصمه،
وينكر صحة هذه الدعوى. الدرر السنية. ويطلب القاضي من المدعى عليه أن يحلف على عدم صدق هذه
الدعوى، فإذا فعل ذلك، برئت ذمته، وسقطت الدعوى، والدليل على ذلك ما رواه الإمام
مسلم في صحيحه أن الأشعث بن قيس رضي الله عنه قال: "كانت بيني وبين رجل خصومة
في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله: "شاهداك
أو يمينه". ولعل سائلاً يسأل: لماذا اختص المدعي بالبينة ، والمنكر
باليمين ؟ وما هي الحكمة من هذا التقسيم؟ والجواب على ذلك: أن الشخص إذا ادعى على
غيره أمرًا، فإنه يدعي أمرًا خفيًا يخالف ظاهر الحال، فلذلك يحتاج إلى أن يساند
دعواه تلك ببيّنة ظاهرة قوية تؤيد صحة دعواه، بينما يتمسّك المنكر بظاهر الأمر،
ويبقى على الأصل، فجاءت الحجة الأضعف – وهي اليمين – في حقه.