وإنما قلنا: عنى به القيام من نوم القائلة ، لأنه لا صلاة تجب فرضا بعد وقت من أوقات نوم الناس المعروف إلا بعد نوم الليل ، وذلك صلاة الفجر ، أو بعد نوم القائلة ، وذلك صلاة الظهر; فلما أمر بعد قوله ( وسبح بحمد ربك حين تقوم) بالتسبيح بعد إدبار النجوم ، وذلك ركعتا الفجر بعد قيام الناس من نومها ليلا علم أن الأمر بالتسبيح بعد القيام من النوم هو أمر بالصلاة التي تجب بعد قيام من نوم القائلة على ما ذكرنا دون القيام من نوم الليل. وقوله ( ومن الليل فسبحه) يقول: ومن الليل فعظم ربك يا محمد بالصلاة والعبادة ، وذلك صلاة المغرب والعشاء. وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني به يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله ( ومن الليل فسبحه) قال: ومن الليل: صلاة العشاء ( وإدبار النجوم) يعني حين تدبر النجوم للأفول عند إقبال النهار. وقيل: عني بذلك ركعتا الفجر. ذكر بعض من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد قال: ثنى أبي ، قال: ثني عمي ، قال: ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله ( فسبحه وإدبار النجوم) قال: هما السجدتان قبل صلاة الغداة. القرآن الكريم - مفاتيح الغيب للرازي - تفسير سورة الطور - الآية 48. [ ص: 491]
حدثنا بشر قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم) كنا نحدث أنهما الركعتان عند طلوع الفجر.
القرآن الكريم - مفاتيح الغيب للرازي - تفسير سورة الطور - الآية 48
قال: وذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: لهما أحب إلي من حمر النعم. حدثنا بشر قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن زرارة بن أوفى ، عن سعيد بن هشام عن عائشة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في ركعتي الفجر " هما خير من الدنيا جميعا ". حدثنا ابن عبد الأعلى قال: ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( وإدبار النجوم) قال: ركعتان قبل صلاة الصبح. حدثنا ابن بشار قال: ثنا ابن أبي عدي وحماد بن مسعدة قالا: ثنا حميد ، عن الحسن ، عن علي في قوله ( وإدبار النجوم) قال: الركعتان قبل صلاة الصبح. حدثنا ابن حميد قال: ثنا جرير ، عن عطاء قال: قال علي رضي الله عنه ( إدبار النجوم) الركعتان قبل الفجر. وقال آخرون: عنى بالتسبيح إدبار النجوم: صلاة الصبح الفريضة. حدثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ ، يقول: أخبرنا عبيد قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( وإدبار النجوم) قال: صلاة الغداة. حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله ( وإدبار النجوم) قال: صلاة الصبح. وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: عنى بها: الصلاة المكتوبة صلاة الفجر ، وذلك أن الله أمر فقال ( ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم) [ ص: 492] والركعتان قبل الفريضة غير واجبتين ، ولم تقم حجة يجب التسليم لها ، أن قوله فسبحه على الندب ، وقد دللنا في غير موضع من كتبنا على أن أمر الله على الفرض حتى تقوم حجة بأنه مراد به الندب ، أو غير الفرض بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
لذلك؛ فالحق سبحانه وتعالى يعطينا زمن التسبيح، فنعيشه في كل الوقت {قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الليل فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النهار} [طه: 130]. … يقول بعض العارفين في نصائحه التي تضمن سلامة حركة الحياة:
" اجعل مراقبتك لمن لا تخلو عن نظره إليك " فهذا الذي يستحق المراقبة، وعلى المرء أنْ يتنبه لهذه المسألة، فلا تُكنْ مراقبته لمن يغفل عنه، أو ينصرف، أو ينام عنه.
" واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك " فإذا شربتَ كوب ماءٍ فقُلْ: الحمد لله أن أرواك، فساعةَ تشعر بنشاطها في نفسك قل: الحمد لله. وساعةَ أنْ تُخرجها عرقاً أو بولاً قل: الحمد لله، وهكذا تكون موالاة حمد الله، والمداومة على شُكْره.
" واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه " فطالما أنك لا تستغني عنه، فهو الأَوْلَى بطاعتك.
" واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن مُلْكه وسلطانه " وإلاَّ فأين يمكنك أن تذهب؟
ما سر الإطلاق في آناء الليل والتقييد بأطراف النهار ؟
لماذا أطلق زمن التسبيح بالليل، فقال {آنَآءِ الليل} [طه: 130] وحدده في النهار فقال {وَأَطْرَافَ النهار} [طه: 130] ؟ قالوا: لأن النهار عادة يكون محلاً للعمل والسَّعْي، فربما شغلك التسبيح عن عملك، وربنا يأمرنا أن نضربَ في الأرض ونُسهِم في حركة الحياة، والعمل يُعين على التسبيح، ويُعين على الطاعة، ويُعينك أنْ تلبي نداء: الله أكبر…
أمّا في الليل فأنت مستريح، يمكنك التفرغ فيه لتسبيح الله في أيِّ وقت من أوقاته.