صريح في أن توجهه إلى بيت المقدس كان بأمر من الله تعالى لمصلحة كانت تقتضي ذلك، ولم يكن لاختيار النبي صلى الله عليه واله وسلم في ذلك دخل أصلا. والصحيح أن يقال في الاية الكريمة إنها دالة على عدم اختصاص جهة خاصة بالله تعالى، فإنه لا يحيط به مكان، فأينما توجه الانسان في صلاته ودعائه وجميع عباداته فقد توجه إلى الله تعالى. ومن هنا استدل بها أهل البيت (ع)على الرخصة للمسافر أن يتوجه في نافلته إلى أية جهة شاء، وعلى صحة صلاة الفريضة فيما إذا وقعت بين المشرق والمغرب خطأ، وعلى صحة صلاة المتحير إذا لم يعلم أين وجه القبلة. وعلى صحة سجود التلاوة إلى غير القبلة، وقد تلاها سعيد بن جبير " رحمه الله " لما أمر الحجاج بذبحه إلى الارض فهذه الاية مطلقة، وقد قيدت في الصلاة الفريضة بلزوم التوجه فيها إلى بيت المقدس تارة، وإلى الكعبة تارة أخرى، وفي النافلة أيضا في غير حال المشي على قول. وأما ما في بعض الروايات من أنها نزلت في النافلة فليس المراد أنها مختصة بذلك " وقد تقدم أن الايات لا تختص بموارد نزولها ". فأينما تولوا فثم وجه الله. وجملة القول: ان دعوى النسخ في الاية الكريمة يتوقف ثبوتها على أمرين:
الاول: أن تكون واردة في خصوص صلاة الفريضة، وهذا معلوم بطلانه، وقد وردت روايات من طريق أهل السنة في أنها نزلت في الدعاء وفي النافلة للمسافر، وفي صلاة المتحير، وفي من صلى إلى غير القبلة خطأ وقد مر عليك - آنفا - استشهاد أهل البيت (ع) بالآية المباركة في عدة موارد.
فثم وجه الله - ووردز
وهذا معنى صحيح موافق لظاهر الآية والمعنى الأول لا يخالفه في الواقع. وحينئذ يكون المعنيان لا يتنافيان. واعلم أن هذا الوجه العظيم الموصوف بالجلال والإكرام وجه لا يمكن الإحاطة به وصفاً ، ولا يمكن الإحاطة به تصوراً ، بل كل شيء تُقَدره فإن الله تعالى فوق ذلك وأعظم. ولا يحيطون به علماً طه /110. وأما قوله تعالى: كل شيءٍ هالكٌ إلا وجهه القصص / 88 ، فالمعنى: " كل شيء هالك إلا ذاته المتصفة بالوجه " شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين ( 1 / 243 – 245)
ونحن يجب علينا ألا نقيس الخالق بالمخلوق فنصفه بصفة المخلوق ، فإن الله تعالى كما قال عن نفسه: ( ليس كمثله شيء) الشورى / 11. فثم وجه الله - ووردز. فالله تعالى مستوٍ على عرشه ، وهو قِبل وجه المصلي ولا منافاة بينهما في حق الله تعالى. وقد أشكل مثل هذا على بعض الناس في مسألة نزول الله تعالى في النصف الآخر من الليل إلى السماء الدنيا ، فقالوا: إن الليل غير متحد على الأرض فكيف ينزل الله في ليل ونهار معا. قال الشيخ ابن عثيمين:
جاء المتأخرون الذين عرفوا أن الأرض كروية وأن الشمس تدور على الأرض. قالوا: كيف ينزل في ثلث الليل ، وثلث الليل إذا انتقل عن المملكة العربية السعودية ذهب إلى أوروبا وما قاربها ؟ فنقول: أنتم الآن قستم صفات الله بصفات المخلوقين ، أنت أو من أول بأن الله ينزل في وقت معين وإذا آمنت ليس عليك شيء وراء ذلك ، لا تقل كيف وكيف ؟.
تفسير الآية: فأينما تولوا فثمّ وجه الله
وممن روي عنه هذا القول: ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن البصري ، وقتادة ، ومقاتل بن حيان ، والشافعي. واختاره: الواحدي ، والزمخشري ، وابن عطية ، والرازي ، وابن تيمية ، وابن عثيمين ،
وجعل الآية محتملة له وللقول الأول. قال ابن تيمية: { فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أي: قبلة الله ، ووجهة الله ، هكذا قال جمهور السلف. وقال: (( الوجه)) هو الجهة في لغة العرب ، يقال: قصدت هذا الوجه ، وسافرت إلى هذا الوجه ،
أي: إلى هذه الجهة. وهذا كثير مشهور ، فالوجه هو الجهة ، كما في قوله تعالى:
{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} أي: متوليها ، فقوله تعالى: { هُوَ مُوَلِّيهَا} كقوله تعالى
{ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} كلا الآيتين في اللفظ والمعنى متقاربان ، وكلاهما في شأن القبلة ،
والوجه والجهة هو الذي ذكر في الآيتين: أنا نوليه ، نستقبله. فأينما تولوا فثم وجه ه. القول الثاني: أن قوله { فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} المراد به الله عز وجل ليس غيره. وهذا قول المعتزلة ، ونُسب للكلبي ، واختاره ابن قتيبة. القول الثالث: أن معنى الآية فثم رضا الله وثوابه. حكاه دون نسبة: الطبري، والبغوي، والقرطبي، واختاره:الجصاص وابن جزي الكلبي. والــــراجـــــــح أن قوله تعالى: { فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} هو من باب الصفات ، وأن المراد بالآية
وجه الله الذي هو صفة من صفاته سبحانه.
اهـ.