روى السيوطي في كتابه ( أسباب النزول) (ص 30 ط: الشعب). أن (البارودي) قد أخرج في الصحابة، من طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة، أو سعيد عن ابن عباس: أن ثابت بن الدحداح: سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم: عن المحيض، فنزلت الآية مشتملةً على الرد في قوله تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ﴾ [البقرة: 222]. وتفسير الآية الكريمة كما جاء (في المنتخب في تفسير القرآن الكريم) ما يأتي:
(ويسألونك عن إتيان الزوجاتِ زمنَ المحيض فأجِبْهم: أن المحيض أذًى، فامتنِعوا عن إتيانهن مدَّتَه حتى يطهُرْن)؛ (اهـ ط المجلس الأعلى). يسألونك عن المحيض قل فيه أذى. ويبدو أن معاملةَ المرأة الحائض في الديانة اليهودية؛ حيث لم يكونوا يؤاكلونها أو يجتمعون معها في البيوت هي السِّرُّ في سؤال ثابت بن الدحداح للرسول عن هذه المسألة: فلقد روى مسلمٌ والترمذيُّ عن أنس: (أن اليهودَ كانوا إذا حاضت المرأةُ منهم لم يؤاكلوها، ولم يجامِعوها في البيوت، فسأل أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ﴾ [البقرة: 222] في الآية، فقال صلى الله عليه وسلم: ((اصنَعوا كلَّ شيءٍ إلا النكاح))؛ (أي الاتصال بين الرجل والمرأة).
قال مالك: أمر أهل الفقه والعلم على هذا. وكان أحمد يقول: أَحبُّ إلي ألا يطأها، إلا أن يطول ذلك بها. وعن ابن عباس رضي الله عنهما في المستحاضة: لا بأس أن يصيبها زوجها، وإن كان الدم يسيل على عقبيها. المسألة التاسعة: البكر المبتدأة برؤية الدم تجلس أول ما ترى الدم خمسة عشر يوماً، ثم تغتسل وتصلي في قول الشافعي. وقال مالك: لا تقضي الصلاة، ويمسك عنها زوجها. وقال الإمام أحمد: تجلس يوماً وليلة، ثم تغتسل وتصلي، ولا يأتيها زوجها. وقال الحنفية: تدع الصلاة عشراً، ثم تغتسل وتصلي عشرين يوماً، ثم تترك الصلاة بعد العشرين عشراً، فيكون هذا حالها حتى ينقطع الدم عنها. المسألة العاشرة: الطهر العارض في فترة الحيض عند الحنفية كدم متصل، فحكمه حكم الحيض، تدع المرأة لأجله الصلاة والصوم، ولا يقربها زوجها. وعند المالكية تلغى أيام الطهر، وتضم أيام الدم بعضها إلى بعض، فإن دام بها ذلك استظهرت بثلاثة أيام على أيام حيضها، فإن رأت في خلال أيام الاستظهار أيضاً طهراً، ألغته حتى يحصل ثلاثة أيام دم الاستظهار. وأيام الطهر تصلي، وتصوم، ويأتيها زوجها، ويكون ما جُمِع من أيام الدم بعضه إلى بعض حيضة واحدة، ولا يُعْتَدُّ بأيام الطهر في عدة من طلاق، فإذا استظهرت بثلاثة أيام بعد أيام حيضها، تتوضأ لكل صلاة، وتغتسل كل يوم إذا انقطع عنها من أيام الطهر.
قال القرطبي: "وهذا قول شاذ، خارج عن قول العلماء، وإن كان عموم الآية يقتضيه فالسنة الثابتة بخلافة". الثاني: الذي يجب اعتزاله ما بين السرة إلى الركبة، وهذا مذهب الحنفية والمالكية. واحتجوا لقولهم بما روي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (كنتُ أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، كلانا جنب، وكان يأمرني فأتزر فيباشرني، وأنا حائض) رواه البخاري. وبما روي عن ميمونة رضي الله عنها، قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر نساءه فوق الإزار وهنّ حيّض) رواه مسلم. الثالث: الذي يجب اعتزاله موضع الأذى وهو الفرج فقط، وهذا مذهب الشافعية. واستدلوا لمذهبهم بقوله صلى الله عليه وسلم: ( اصنعوا كل شيء إلا النكاح) رواه مسلم. وبما روي عن مسروق قال: سألت عائشة ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضاً؟ قالت: (كل شيء إلا الجماع) رواه عبد الرزاق في "مصنفه". وقد رجح الإمام الطبري ثاني الأقوال، فقال: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: إن للرجل من امرأته الحائض ما فوق المؤتزر ودونه". والعلة أن السماح بالمباشرة فيما بين السرة إلى الركبة قد تؤدي إلى المحظور؛ لأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فالاحتياط أن نبعده عن منطقة الحظر.
المسألة الثالثة: اختلف الفقهاء في مدة الحيض، ومقدار أقله وأكثره على أقوال ثلاثة:
الأول: أن أقله ثلاثة أيام، وأكثره عشرة. وهذا قول الحنفية. واستدلوا لمذهبهم بحديث أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة أيام) رواه الدار قطني ، و الطبراني في "الأوسط"، و"الكبير". قال الجصاص: "إن صح هذا الحديث، فلا معدل عنه لأحد". الثاني: أن أقله يوم وليلة، وأكثره خمسة عشرة يوماً. وبهذا قال الشافعي و أحمد. واستدلوا بحديث: ( تمكث إحداهن شطر عمرها، لا تصلي)، قال البيهقي: "قد طلبته كثيراً، فلم أجده في شيء من كتب أصحاب الحديث, ولم أجد له إسناداً بحال". و(الشطر) في اللغة النصف، فهذا يدل على أن الحيض قد يكون خمسة عشر يوماً. الثالث: لا وقت لقليل الحيض ولا لكثيره، والعبرة بعادة النساء. وهو قول مالك. والذي عليه أكثر أهل العلم أن أقل الطهر خمسة عشر يوماً، وهو الصحيح في الباب. وعند مالك مدة الطهر كمدة الحيض متروك أمرها لغالب عادة النساء. المسألة الرابعة: { فاعتزلوا النساء}، المراد باعتزال النساء: اجتناب مجامعتهن، لا ترك المجالسة، أو الملامسة، أو الموآكلة، فإن ذلك جائز. واختلف أهل العلم فيما يجب اعتزاله من المرأة في حال الحيض على أقوال ثلاثة:
الأول: أن الذي يجب اعتزاله جميع بدن المرأة.
ويقول الدكتور البار متحدثاً عن الأذى الذي في المحيض: ((يُقذف الغشاء المبطن للرحم بأكمله أثناء الحيض، وبفحص دم الحيض تحت المجهر نجد بالإضافة إلى كرات الدم الحمراء والبيضاء قطعاً من الغشاء المبطن للرحم، ويكون الرحم متقرحاً نتيجة لذلك، تماماً كما يكون الجلد مسلوخاً، فهو معرض بسهولة لعدوان البكتيريا الكاسح، ومن المعلوم طبياً أن الدم هو خير بيئة لتكاثر الميكروبات ونموها، وتقل مقاومة الرحم للميكروبات الغازية نتيجة لذلك، ويصبح دخول الميكروبات الموجودة على سطح القضيب يشكل خطراً داهماً على الرحم. ومما يزيد الطين بلة أن مقاومة المهبل لغزو البكتيريا تكون في أدنى مستواها أثناء الحيض، إذ يقل إفراز المهبل للحامض الذي يقتل الميكروبات، ويصبح الإفراز أقل حموضة إن لم يكن قلوي التفاعل، كما تقل المواد المطهرة الموجودة بالمهبل أثناء الحيض إلى أدنى مستوى لها، وليس ذلك فحسب، ولكن جدار المهبل المكون من عدة طبقات من الخلايا يرق أثناء الحيض، ويصبح رقيقاً ومكوناً من طبقة من الخلايا بدلاً من الطبقات العديدة التي نراها في أوقات الطهر، وخاصة في وسط الدورة الشهرية حيث يستعد الجسم بأكمله للقاء الزوج. لهذا فإن إدخال القضيب إلى الفرج والمهبل في أثناء الحيض ليس إلا إدخالاً للميكروبات في وقت لا تستطيع فيه أجهزة الدفاع أن تقاوم، كما أن وجود الدم في المهبل والرحم يساعد على نمو تلك الميكروبات وتكاثرها.
وقد ثبت أن الاتصال الجنسي في زمن الحيض هو العامل الأكبر في وصول هذه الجراثيم المرضية إلى المهبل، حيث تجد الوسط المهبلي الدموي صالحًا كل الصلاحية لنموِّها وتكاثرها، وتصيب المهبل بمختلف الالتهابات، وشتى الأمراض التي قد تمتد إلى جميع أجزاء الجهاز التناسلي، وتحمل المرأة بما لا قبل لها به من الآلام والمضاعفات التي قد تؤدِّي إلى العقم. وتعود العدوى إلى الرجل عن طريق قناته البولية، وقد تمتد العدوى كذلك إلى المثانة والحالبين، بل إلى قاعدة الكليتين، وقد تصيب البروستاتا، والحويصلتين المنويتين والخصيتين، بما قد يصيبه بأشد الآلام، ويصاب بالضعف الجنسي، وقد يؤدي به الأمر إلى العقم. وقد تكون العدوى التي يصاب بها الرجل ناشئةً عن المهبل ذاته. فقد تكون به جراثيمُ كافيةٌ في حالة خمول، فتثار في الحيض، وتصيب الرجل عند أول اتصال جنسي، هذا ما أشار إليه القرآن، وما كان عند الناس علم به، ولكن كان علمه عند الله خالق كل شيء، وأن المرأة في أثناء الحيض تكون في أكثر الأحوال راغبة عن الرجل؛ ولذلك فالاتصال الجنسي بها في ذلك قد يؤثر في أعصابها في هذه الناحية، ويعود عليها بالضرر الكبير). مما سبق نصل إلى النتيجة الآتية من أن اتصال الرجل بالمرأة في المحيض يهدد كلاًّ منهما بعواقب وخيمة، هما في غنًى عنها لو استطاعا كبت جماحهما في تلك الفترة الوجيزة، التي لا تتعدى في الغالب أكثر من خمسة أيام، بذلك يحميان نفسيهما من أمراض محققة، وأخطار داهمة لا قِبَل لهما بها.
لقد كان من حكمة التشريع، أن وضَع الإسلامُ الحائضَ في موضع خفَّف عنها من أعباء التكاليف الدينية؛ رعاية لظروفها الصحية، وتقديرًا لِما تمر به من فترة آلام في حياتها، لقد أسقط عنها الإسلام الصلاة مثلاً، لكن يجمل أن نشير إلى بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بالحائض لتمام الفائدة:
أن الشريعة الإسلامية كما ورد في كتاب القدوري الحنفي:
أولاً: قد أسقطت عنها الصلاة، فلا تقضيها بعد طُهرها؛ دفعًا للمشقة عنها؛ ذلك أن الصلاة يكثر تكرارها. ثانيًا: وحرَّمت عليها الصوم، ولو أنها تقضي أيام فطرها بعد أيام رمضان؛ ذلك أن الصيام إنما يكون في العام مرة، وليس في قضائها ما فاتها منه بسبب حيضها مشقةٌ تلحقها. ثالثًا: وحرمت الشريعة كذلك على الحائض أن تدخل المسجد. رابعًا: وحرمت عليها كذلك أن تطوف بالبيت الحرام معتمرةً أو حاجة أو متطوعة. خامسًا: كما حرمت الشريعة على الحائض أن تسمح لزوجها بقربانها. سادسًا: وحرمت الشريعة عليها أيضًا قراءة القرآن. ثم نأتي أخيرًا إلى القول: إن الناظر إلى لفظ (أذى) في الآية الكريمة، هذا اللفظ الوجيز الجامع المانع، من هذه الآية المعجزة، يستطيع أن يرى كم ضمَّ من مختلف المعاني، وكم حوى من صنوف الأغراض، ولتبين له بما لا يدع مجالاً للشك مدى إعجاز وبلاغة القرآن الكريم: التي لا تزال من أكبر خصائصه على مر الأيام، مهما تقدم العلم وارتقت البحوث الطبية؛ ذلك أن القرآنَ قد سبق العلم والطب إلى ما بذلا من أجله الجهد، وغاية الوسع، فما وصل إليه العلم والطب الآن قد انتهى منه القرآن من أربعة عشر قرنًا من الزمان، وذلك ما يؤكد أن القرآن بما حواه من إعجاز عِلمي إنما هو ﴿ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42].