وهذا القول سبقه إليه أبو البقاء فإنه قال: "والمفعول القائم مقام الفاعل مصدر وهو القول وأضمر؛ لأن الجملة بعده تفسره"، ولا يجوز أن يكون "لا تفسدوا" قائما مقام الفاعل؛ لأن الجملة لا تكون فاعلة فلا تقوم مقام الفاعل، انتهى. وقد تقدم جواب ذلك من أن المعنى: وإذا قيل لهم هذا اللفظ، ولا يجوز أن يكون "لهم" قائما مقام الفاعل إلا في رأي الكوفيين والأخفش ، إذ يجوز عندهم إقامة غير المفعول به مع وجوده. وتلخص من هذا أن جملة قوله: "لا تفسدوا" في محل رفع على قول الزمخشري، ولا محل لها على قول أبي البقاء ومن تبعه. والجملة من قوله: "قيل" وما في حيزه في محل خفض [ ص: 137] بإضافة الظرف إليه. والعامل في "إذا" جوابها عند الجمهور وهو "قالوا"، والتقدير: قالوا إنما نحن مصلحون وقت القائل لهم لا تفسدوا، وقال بعضهم: والذي نختاره أن الجملة التي بعدها وتليها ناصبة لها، وأن ما بعدها ليس في محل خفض بالإضافة لأنها أداة شرط، فحكمها حكم الظروف التي يجازى بها، فكما أنك إذا قلت: "متى تقم أقم" كان "متى" منصوبا بفعل الشرط فكذلك "إذا". واذا قيل لهم لاتفسدوا في الارض قالوا انما. قال هذا القائل: والذي يفسد مذهب الجمهور جواز قولك: "إذا قمت فعمرو قائم"، ووقوع "إذا" الفجائية جوابا لها، وما بعد الفاء وإذا الفجائية لا يعمل ما بعدهما فيما قبلهما، وهو اعتراض ظاهر.
تفسير: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون)
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض)
اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية:
فروي عن سلمان الفارسي أنه كان يقول: لم يجئ هؤلاء بعد. واذا قيل لهم لا تفسدوا بالارض. 337 - حدثنا أبو كريب ، قال: حدثنا عثام بن علي ، قال: حدثنا الأعمش ، قال: سمعت المنهال بن عمرو يحدث ، عن عباد بن عبد الله ، عن سلمان ، قال: ما جاء هؤلاء بعد ، الذين ( إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون). [ ص: 288]
338 - حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن شريك ، قال: حدثني أبي ، قال: حدثني الأعمش ، عن زيد بن وهب وغيره ، عن سلمان ، أنه قال في هذه الآية: ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون) ، قال: ما جاء هؤلاء بعد. وقال آخرون بما:
339 - حدثني به موسى بن هارون ، قال: حدثنا عمرو بن حماد ، قال: حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون) ، هم المنافقون. أما " لا تفسدوا في الأرض " فإن الفساد ، هو الكفر والعمل بالمعصية.
إسلام ويب - تفسير القرطبي - سورة البقرة - قوله تعالى وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون- الجزء رقم1
أما"لا تفسدوا في الأرض"، فإن الفساد، هو الكفر والعملُ بالمعصية. ٣٤٠- وحدِّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الرَّبيع: ﴿وإذا قيل لهمْ لا تفسدوا في الأرض﴾ يقول: لا تعْصُوا في الأرض ﴿قالوا إنما نحن مصلحون﴾ ، قال: فكان فسادُهم ذلك معصيةَ الله جل ثناؤه، لأن من عَصى الله في الأرض أو أمر بمعصيته، فقد أفسدَ في الأرض، لأن إصلاحَ الأرض والسماء بالطاعة [[الأثر ٣٤٠- قوله: "قالوا إنما نحن مصلحون"، من المخطوطة، وليس في المطبوعة، وفي المطبوعة والمخطوطة: "فكان فسادهم على أنفسهم ذلك معصية الله... "، و"على أنفسهم" كأنها زيادة من الناسخ، وليست فيما نقله ابن كثير عن الطبري. ]]. وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال: إن قولَ الله تبارك اسمه: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ ، نزلت في المنافقين الذين كانوا على عَهد رسول الله ﷺ، وإن كان معنيًّا بها كُلُّ من كان بمثل صفتهم من المنافقين بعدَهم إلى يوم القيامة. إسلام ويب - تفسير البغوي - سورة البقرة - تفسير قوله تعالى " وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون "- الجزء رقم1. وقد يَحْتمِل قولُ سلمان عند تلاوة هذه الآية:"ما جاء هؤلاء بعدُ"، أن يكون قاله بعد فناء الذين كانوا بهذه الصِّفة على عهد رسول الله ﷺ، خبرًا منه عمَّن هو جَاء منهم بَعدَهم ولَمَّا يجئ بعدُ [[في المطبوعة: "عمن جاء منهم بعدهم"، وهو محيل للمعنى، والصواب من المخطوطة. ]]
إسلام ويب - تفسير البغوي - سورة البقرة - تفسير قوله تعالى " وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون "- الجزء رقم1
والمراد بالأرض هذه الكرة الأرضية بما تحتوي عليه من الأشياء القابلة للإفساد من الناس والحيوان والنبات وسائر الأنظمة والنواميس التي وضعها الله تعالى لها ، ونظيره قوله تعالى وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وقوله تعالى قالوا إنما نحن مصلحون جواب بالنقض فإن الإصلاح ضد الإفساد ، أي جعل الشيء صالحا ، والصلاح ضد الفساد يقال: صلح بعد أن كان فاسدا ، ويقال: صلح بمعنى وجد من أول وهلة صالحا فهو موضوع للقدر المشترك كما قلنا. وجاءوا بإنما المفيدة للقصر باتفاق أئمة العربية والتفسير ولا اعتداد بمخالفه شذوذا في ذلك. وأفاد إنما هنا قصر الموصوف على الصفة ردا على قول من قال لهم: لا تفسدوا ، لأن القائل أثبت لهم وصف الفساد إما باعتقاد أنهم ليسوا من الصلاح في شيء أو باعتقاد أنهم قد خلطوا عملا صالحا وفاسدا ، فردوا عليهم بقصر القلب ، وليس هو قصرا حقيقيا لأن قصر الموصوف على الصفة لا يكون حقيقيا ولأن حرف إنما يختص بقصر القلب كما في دلائل الإعجاز ، واختير في كلامهم حرف إنما لأنه يخاطب به مخاطب مصر على الخطأ كما في دلائل الإعجاز وجعلت جملة القصر اسمية لتفيد أنهم جعلوا اتصافهم بالإصلاح أمرا ثابتا دائما ، إذ من خصوصيات الجملة الاسمية إفادة الدوام.
إسلام ويب - تفسير الطبري - تفسير سورة البقرة - القول في تأويل قوله تعالى " وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض "- الجزء رقم1
والتأويل المجمع عليه أولى بتأويل القرآن، من قولٍ لا دلالةَ على صحته من أصل ولا نظير.
أسامة شحادة
هذه هي الآية 11 من سورة البقرة، وروى الإمام الطبري في تفسيره عدة روايات عمّن يكون هؤلاء، وتنوعت بين كون هذا هو سلوك المنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أو أنهم قوم لم يأتوا بعد، كما رُوي عن سلمان، رضي الله عنه، وجمع الطبري بين القولين بقوله: "وأولى التأويلين بالآية تأويل مَن قال: "إن قولَ الله تبارك اسمه: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون)، نـزلت في المنافقين الذين كانوا على عَهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان معنيًّا بها كُلُّ من كان بمثل صفتهم من المنافقين بعدَهم إلى يوم القيامة. وقد يَحْتمِل قول سلمان عند تلاوة هذه الآية: "ما جاء هؤلاء بعدُ"، أن يكون قاله بعد فناء الذين كانوا بهذه الصِّفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، خبرًا منه عمَّن هو جَاء منهم بَعدَهم ولَمَّا يجئ بعدُ، لا أنَّه عنَى أنه لم يمضِ ممّن هذه صفته أحدٌ". تفسير: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون). أ. هـ وكم اختصرت هذه الآية القليلةِ الكلمات الكثيرَ من المعاني والشرح لِما نراه في عالمنا اليوم من مظاهر وأحوال من الفساد والظلم والطغيان والكفر والفسق والعصيان، وكل ذلك يجري باسم شعارات براقة كالإصلاح والتنوير وحقوق الإنسان والحرية ومحاربة الإرهاب ونشر الديمقراطية والتقدم والتطوير وتجديد الخطاب الديني والإعلامي، وغيرها من الديباجات المزوقة والأسماء والصفات المرغوبة والمطلوبة.
قد ينسى بعض الناس أن الإسلام الذي يحرِّم الانقلاب والتآمر والدعوة إلى خلع يد الطاعة في النظام الدنيوي ويجرِّمه، هو من باب أولى يعدُّ الدعوة إلى خلع يد الطاعة والتشكيك في النظام الروحاني الذي هو نظام جماعة المؤمنين أكثر حرمة وأشد جرما. إسلام ويب - تفسير القرطبي - سورة البقرة - قوله تعالى وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون- الجزء رقم1. بل إن تحريم الخروج على الحاكم وولي الأمر الدنيوي في الحقيقة إنما هو تابع للأصل الذي هو تحريم الخروج على نظام جماعة المؤمنين والخلافة، ولكن هؤلاء كالمعتاد يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض. وإذا كان الإسلام يحرِّم الإنقلاب والتآمر والخيانة دون شروط على النظم الدنيوية التي لا تحظى بأي نوع من العصمة أو الرعاية الربانية، بل بلا شك لا تسلم ولا تخلو من الخلل والظلم والفساد، فهو من باب أولى أيضا لا يقبل بمبررات ترتكز على دعوى أن نظام جماعة المؤمنين الرباني يحتوي خللا ما لا بد من إصلاحه، أو أن فسادا تسرب إليه، أو أنه يسلك مسلكا يبتعد فيه عن العدل والإنصاف والصدق والأمانة. وهذه الدعوى قد سجَّلها القرآن الكريم، إذ يقول تعالى:
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} (البقرة 12-13)
فلو افترضنا جدلا أن هنالك خللا حقيقيا، فهذا ليس مبررا مقبولا على كل حال.