جاء القرآن الكريم على النبى محمد صلى الله عليه وسلم، قبل أكثر من 1400 عام، هدى للناس وبيان من الفرقان، فكان لسماعه فعل السحر، من عذوبة الكلمات ومعانيها التى أسرت قلوب المؤمنين، فكل آية من آيات الذكر الحكيم تحمل تعبيرات جمالية وصورا بلاغية رائعة. وفى القرآن الكريم، نجد العديد من الآيات التى حملت تصويرا بالغًا، وتجسيد فنى بليغ، ومفردات لغوية عذبة، تجعلك تستمتع بتلاوة كلمات الله التامات على نبيه، ووحيه الأخير إلى الأمة، ومن تلك الآيات الجمالية التى جاءت فى القرآن: ﴿رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ (سورة آل عمران الآية:193). أى أنهم يقولون على سبيل الضراعة والخضوع لله رب العالمين: يا ربنا إننا سمعنا مناديا ينادى أى داعيا يدعو إلى الإيمان وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم، فاستجبنا لدعوته، وآمنا بما دعانا إليه بدون تردد أو تسويف، وفي وصفه صلى الله عليه وسلم بالمنادي، دلالة على كمال اعتنائه بشأن دعوته التي يدعو إليها، وأنه حريص على تبليغها للناس تبليغا تاما.
القرآن الكريم - تفسير الطبري - تفسير سورة الجن
قالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء ؟ فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها ، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر; فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا: إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا فأنزل الله - عز وجل - على نبيه - صلى الله عليه وسلم -: قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن: رواه الترمذي عن ابن عباس قال: قول الجن لقومهم: لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا قال: لما رأوه يصلي وأصحابه يصلون بصلاته فيسجدون بسجوده قال: تعجبوا من طواعية أصحابه له ، قالوا لقومهم: لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا. قال: هذا حديث حسن صحيح; ففي هذا الحديث دليل على أنه - عليه السلام - لم ير الجن ولكنهم حضروه ، وسمعوا قراءته. وفيه دليل على أن الجن كانوا مع الشياطين حين تجسسوا الخبر بسبب الشياطين لما رموا بالشهب. إنا سمعنا قرآنا عجبا. وكان المرميون بالشهب من الجن أيضا. وقيل لهم شياطين كما قال: شياطين الإنس والجن فإن الشيطان كل متمرد وخارج عن طاعة الله.
إنا سمعنا قرآنًا عجبا, عجائب الجن, عالم الجن, سورة الجن
رواه الحاكم في المستدرك: (3766)، والبيهقي في شعب الإيمان: (4/ 115)، (2264). وهذا لا يمنع أن يكون قد قرأ عليهم غير هذه السورة، فإن استماعهم للقرآن قد تعدد ، كما نبهنا عليه. والله أعلم.
القرآن الكريم - تفسير القرطبي - تفسير سورة الجن
[ ص: 644] [ ص: 645] [ ص: 646] [ ص: 647] بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: ( قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرءانا عجبا ( 1) يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ( 2) وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ( 3))
يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد أوحى الله إلي ( أنه استمع نفر من الجن) هذا القرآن ( فقالوا) لقومهم لما سمعوه: ( إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد) يقول: يدل على الحق وسبيل الصواب ( فآمنا به) يقول: فصدقناه ( ولن نشرك بربنا أحدا) من خلقه. وكان سبب استماع هؤلاء النفر من الجن القرآن ، كما حدثني محمد بن معمر ، قال: ثنا أبو هشام ، يعني المخزومي ، قال: ثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم; انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه ، عامدين إلى سوق عكاظ ، قال: وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا: ما لكم ؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب ، فقالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء [ ص: 648] إلا شيء حدث.
إنا سمعنا قرآنا عجبا
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ)الجن/1، وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْلُ الجِنِّ ". وفي لفظ مسلم، عن ابن عباس: " مَا قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجِنِّ ، وَمَا رَآهُمُ.. " ثم ذكر الحديث: " انْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ... ". وقد تعدد سماع الجن للقرآن، كما ورد في الأحاديث، فقد استمعوا للقرآن من النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة. قال ابن كثير عن إحدى الروايات التي أوردها: "وهذا يقتضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر بحضورهم في هذه المرة ، وإنما استمعوا قراءته، ثم رجعوا إلى قومهم. ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالا قوما بعد قوم، وفوجا بعد فوج، كما سيأتي بذلك الأخبار في موضعها والآثار" انتهى من " تفسير ابن كثير"(7/ 291). وقد أورد الإمام ابن كثير عددًا من الأحاديث في استماع الجن للقرآن في تفسير قوله تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ)الأحقاف/29، فلتنظر في تفسيره (7/ 289).
جمال القرآن.. &Quot;إننا سمعنا مناديا ينادى بالإيمان&Quot; بلاغة وصف استجابة المؤمنين
حدثني محمد بن عمارة ، قال: ثني خالد بن يزيد ، قال: ثنا أبو إسرائيل ، عن فضيل ، عن مجاهد ، في قوله: ( وأنه تعالى جد ربنا) قال: جلال ربنا. حدثنا ابن حميد ، قال: ثنا مهران عن سفيان ، عن سليمان التيمي قال: قال عكرمة: ( تعالى جد ربنا) جلال ربنا. حدثنا بشر ، قال: ثنا يزيد ، قال: ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله: ( وأنه تعالى جد ربنا): أي تعالى جلاله وعظمته وأمره. حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال: ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله: ( تعالى جد ربنا) قال: تعالى أمر ربنا: تعالت عظمته. وقال آخرون: بل معنى ذلك: تعالى غنى ربنا. حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال: ثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال: قال الحسن ، في قوله: ( تعالى جد ربنا) قال: غنى ربنا. حدثنا ابن حميد ، قال: ثنا مهران ، عن سفيان ، عن سليمان التيمي ، عن الحسن ( تعالى جد ربنا) قال: غنى ربنا. [ ص: 650]
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال: ثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله: ( تعالى جد ربنا) قال: غنى ربنا. حدثنا الحسن بن عرفة ، قال: ثنا هشيم ، عن سليمان التيمي ، عن الحسن وعكرمة ، في قول الله: ( وأنه تعالى جد ربنا) قال أحدهما: غناه ، وقال الآخر: عظمته.
وإنما عنوا أن حظوته من الملك والسلطان والقدرة والعظمة عالية ، فلا يكون له صاحبة ولا ولد; لأن الصاحبة إنما تكون للضعيف العاجز الذي تضطره الشهوة الباعثة إلى اتخاذها ، وأن الولد إنما يكون عن شهوة أزعجته إلى الوقاع الذي يحدث منه الولد ، فقال النفر من الجن: علا ملك [ ص: 651] ربنا وسلطانه وقدرته وعظمته أن يكون ضعيفا ضعف خلقه الذين تضطرهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة ، أو وقاع شيء يكون منه ولد. وقد بين عن صحة ما قلنا في ذلك إخبار الله عنهم أنهم إنما نزهوا الله عن اتخاذ الصاحبة والولد بقوله: ( وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا) يقال منه: رجل جدي وجديد ومجدود ، أي ذو حظ فيما هو فيه ، ومنه قول حاتم الطائي: اغزوا بني ثعل فالغزو جدكم عدوا الروابي ولا تبكوا لمن قتلا
وقال آخر: يرفع جدك إني امرؤ سقتني إليك الأعادي سجالا
وقوله: ( ما اتخذ صاحبة) يعني زوجة ( ولا ولدا). واختلفت القراء في قراءة قوله: ( وأنه تعالى) فقرأه أبو جعفر القارئ وستة أحرف أخر بالفتح ، منها: ( أنه استمع نفر) ( وأن المساجد لله) ( وأنه كان يقول سفيهنا) ( وأنه كان رجال من الإنس) ( وأنه لما قام عبد الله يدعوه) ( وأن لو استقاموا على الطريقة) وكان نافع يكسرها إلا ثلاثة أحرف: أحدها: ( قل أوحي إلي أنه استمع نفر) والثانية ( وأن لو استقاموا) والثالثة ( وأن المساجد لله).