ذلك الشاعر البدوي النشأة، البغدادي الإقامة.. علي ابن الجهم الذي عاش منتصف القرن الثالث الهجري و ذاعت شهرته بفضل قصيدته {عيون المها} التي يقول فيها..
عيون المها بين الرصافة و الجسر جلبن الهوى من حيثُ ادري ولا ادري
اعدن لي الشوق القديم و لم اكن
سلوت ولكن زدن جمراً على جمرِ
سلمن، و اسلمن القلوب، كأنما تشك بأطراف المُـثـقـفـةِ السمرِ
وقلن لنا نحن الاهلة انما
تضئ لمن يسري بليل ولاتقري
فلا بذل ألا ماتزود ناظر
ولا وصل ألا بالخيال الذي يسري
احين أزحن القلب عن مستقره
والهبن ما بين الجوانح والصدر. اوالى نهاية القصيدة.
علي بن الجهم - عُيونُ المَها بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسرِ - بصوت فالح القضاع - Youtube
عيون المها بين الرصافة والجسرِ.. جلبن الهوى من حيث يدري علي بن الجهم، ومن حيث لا يدري أيضًا. لكن قرّاء شعره ومريديه على مر العصور والأزمان اكتشفوا إحدى الجهات السحرية التي يمكن أن تهب منها رياح الهوى.. من حيث يدرون.. من حيث ديوانه الشعري المليء بمفردات تبدأ من جهة القلب وتنتهي بذات الجهة أيضا، وبينهما عالم من المفازات الشعرية. إنه علي بن الجهم بن بدر، أبو الحسن، من بني سامة، من لؤي بن غالب، المولود في العام 188 للهجرة في بغداد سليلا لأسرة عربية متحدرة من قريش أكسبته فصاحة لسان وأحاطت موهبته الشعرية بالرزانة والجزالة والقوة، وحمتها في بواكيرها من تأثيرات المدينة التي كانت تعج بالوافدين من أعاجم البلاد المحيطة ببغداد آنذاك. وشاعرنا من أولئك الشعراء المؤمنين بأن الشعر حياة إضافية على الحياة، فلم يدخر جهدًا ولا شعرًا في سبيل أن يعيش الحياتين بكل فعالية ولم يترك طريقا يمكن أن يسلكها في سبيل معتقداته السياسية والدينية إلا وسلكها راضيًا بكل نتائجها. نشأ علي بن الجهم في زمن يمور باختلافات سياسية ومذهبية متنوعة تحت إطار الإسلام في العصر العباسي، وعلى الرغم من أنه عاصر ثلاثة خلفاء عباسيين هم المأمون والمعتصم والواثق على التوالي إلا أنه لم يقترب منهم بل آثر أن يوثق علاقاته الفكرية والشعرية مع رموز ذلك العصر ممن يتفقون معه في أفكاره، فربطته علاقة فكرية جميلة بالإمام أحمد بن حنبل، وعلاقة شعرية أجمل مع الشاعر أبي تمام.
وأنا لا أصدق هذه القصة وأرجح أن معلمي الأدب قد وضعوها للتدليل على أثر المجتمع والبيئة والظروف المكانية على الشاعر، بعد أن التقطوا من جعبة علي بن الجهم ما رأوا فيه شيئا من التناقض في التصوير الشعري وتباعد بين المعجم اللغوي في المقطوعتين الشعريتين. فأعادوا الأولى للبئية الصحراوية، وأخرجوا الأخرى من إهاب مدنية العاصمة. لكن هؤلاء المعلمين (أبرياء المقاصد كما أرى)، فاتهم أن ابن الجهم من مواليد بغداد فعلاً، وفيها نشأ وتعلم واختلط بالناس واستفاد من كل معطياتها الحضارية تدريجيا ولم يقدم من الصحراء بدويا فظا غليظ القلب كما زعموا في تلك الرواية الضعيفة. ثم إن الصحراء العربية التي اتهموها بالجلافة والفظاظة الشعرية سبق وأن أنتجت أرق غزليات العرب قاطبة.. وما الغزل العذري إلا دليلاً على ما نذهب إليه. هذا طبعًا إن تجاهلنا رؤيتهم للتناقض المزعوم بين المقطوعتين.. فواضح أن الشاعر كتب أبياته وفقا للمدرسة التي تقول بأن لكل مقام حياتي مقالاً شعريًا.. بكل بساطة. والقصة التي اشتهرت عن علاقة ابن الجهم بالمتوكل ليست كل ما ورد إلينا على هذا الصعيد. فالمتوكل الذي قرب ابن الجهم إليه نتيجة لتقاربهما الفكري سرعان ما غضب منه تحت وطأة إلحاح الساعين الى إفساد تلك العلاقة المميزة بين الاثنين.