يزيد بن عبدالملك
واستولى يزيد بن عبدالملك على الحكم بعهد من أخيه سليمان، وأقام أربعين يوماً يسير بين الناس بسياسة عمر بن عبدالعزيز ، فشق ذلك على بني اُمية، فأتوه بأربعين شيخاً فشهدوا بأنه ليس على الخلفاء حساب ولا عقاب[9]. فعدل عن سياسة عمر، وساس الناس سياسة عنف وجبروت، وعمد الى عزل جميع ولاة عمر، وكتب مرسوماً الى عماله جاء فيه: «أما بعد فإنّ عمر بن عبدالعزيز كان مغروراً ، فدعوا ما كنتم تعرفون من عهده، وأعيدوا الناس الى طبقتهم الاُولى، أخصبوا أم أجدبوا، أحبوا أم كرهوا، حيوا أم ماتوا... »[10]. وعاد الظلم على الناس بأبشع صوره وألوانه، وانتشر الجور، وعم الطغيان جميع أنحاء البلاد. لقد كان يزيد بن عبدالملك جاهلاً، حقوداً على أهل العلم، حتى أنّه كان يحتقر العلماء، ويسمي الحسن البصري بالشيخ الجاهل[11] كما كان مسرفاً في اللهو والمجون حتى هام بحب حبابة، وقد ثمل يوماً، فقال: دعوني أطير، فقالت حبابة: على من تدع الاُمة؟ قال: عليك. وخرجت معه الى الأردن يتنزهان فرماها بحبة عنب فدخلت حلقها فشرقت، ومرضت، وماتت فتركها ثلاثة أيام لم يدفنها حتى أنتنت، وهو يشمها، ويقبلها، وينظر إليها ويبكي، فكلم في أمرها حتى أذن في دفنها، وعاد الى مقره كئيباً حزيناً[12].
- قصة يزيد بن عبدالملك مع حبابة بالتفاصيل - جريدة الساعة
- كتب يزيد بن عبدالملك - مكتبة نور
- البداية والنهاية/الجزء العاشر/خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك - ويكي مصدر
قصة يزيد بن عبدالملك مع حبابة بالتفاصيل - جريدة الساعة
لقد شغل الأمير الجديد صدر ولايته بضبط الأمور في الأندلس، وإخماد الفتن فيها، ومن ذلك توجهه إلى المنطقة الشمالية في الأندلس للقضاء على حركة (بلاي) وإخماد التمرد الذي قام به (أخيلا بن غطيشة) في مدينة طركونة حتى استقام له أمرها، ثم أعد نفسه للجهاد وباشر الفتح فيما وراء البرتات بنفس، وكان بداية ذلك سنة 105هـ، وهو ما أخذ به أكثر المؤرخين، وبذلك يكون الإعداد والتجهيز لهذه الحملة قد تم في عهد الخليفة يزيد بن عبد الملك، وقد يكون خروجها قد تم في أواخر زمنه -أيضًا- أما ما تم على يد عنبسة من فتوحات في بلاد الغال، فإن ذلك قد حدث في خلافة هشام بن عبد الملك. وفاة يزيد بن عبد الملك:
قيل إن يزيد مرض بالسل ومات يوم الجمعة لخمس بقين من شعبان سنة 105هـ بسواد الأردن، وقيل: إنه مات بالجولان، وقيل: بحوران، وصلَّى عليه ابنه الوليد بن يزيد، وقيل: صلَّى عليه أخوه هشام بن عبد الملك وهو الخليفة من بعده، وحمل على أعناق الرجال حتى دُفِنَ بين باب الجابية وباب الصغير بدمشق، وكان قد عهد بالأمر من بعده لأخيه هشام ومن بعده لولده.
كتب يزيد بن عبدالملك - مكتبة نور
العديد من حكام بني أمية سعوا سياسياً وشخصياً لتثبيت حكمهم وكشفت العديد من التمردات ضدهم صراعات على السلطة
وفي كتابه، يذكر السيوطي "أن جارية بن قدامة اختلف مع معاوية فقال له: إنّك لم تملكنا قسرة ولم تفتتحنا عنوة، فما بيننا وبينك إلا عهود ومواثيق، فإنّ وفيت لنا وفينا، وإلا فإنّ وراءنا رجالاً شداداً... ". ويهدّد قدامة معاوية في حكمه إن هو لم يوفِّ للناس بما تعهد به، كما يذكر السيوطي كذلك اعتراض الناس على نسب معاوية، وعلى قيامه باستخلاف ابنه يزيد، وكيف ردّوا عليه بأنّ ما يفعله ما هو إلا "سنة قيصر وهرقل" وليس من الدين. وبعد وفاة معاوية، ومجيء ابنه يزيد بن معاوية، الذي بقي في الحكم ثلاثة أعوامٍ فقط، قيل فيه من قبل الحسن البصري، أنّ الناس خرجوا عليه لأنّه "طرق باب المعاصي"، حيث إنّ فترة حكمه شهدت اضطراباتٍ سياسية عديدة من أهمها مقتل الحسين بعد رفضه مبايعة يزيد، أما معاصيه، فيذكرها الواقدي بقوله: "إنّه رجل لا يترك النساء ولا الأمهات حتى، ويشرب الخمر، ويدع الصلاة". وإضافةً إلى ما ينقله السيوطي عن الواقدي والبصري، يؤرّخ شمس الدين الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء"، أنّ يزيداً حين حاصر مكة وهاجم عبدالله بن الزبير "كاد يحرق الكعبة، حتى أن ستارها اشتعلت فيه النيران".
البداية والنهاية/الجزء العاشر/خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك - ويكي مصدر
ولكن لم ينتظم حتى قال هشام يوما للوليد: ويحك! والله ما أدري أعلى الإسلام أنت أم لا، فإنك لم تدع شيئا من المنكرات إلا أتيته غير متحاش ولا مستتر، فكتب إليه الوليد:
يا أيها السائل عن ديننا * ديني على دين أبي شاكر
نشربها صرفا وممزوجةً * بالسخن أحيانا وبالفاتر
فغضب هشام على ابنه مسلمة، وكان يسمى: أبا شاكر، وقال له: تشبه الوليد بن يزيد وأنا أريد أن أرقيك إلى الخلافة. وبعثه على الموسم سنة تسع عشر ومائة فأظهر النسك والوقار، وقسم بمكة والمدينة أموالا، فقال مولى لأهل المدينة:
يا أيها السائل عن ديننا * نحن على دين أبي شاكر
الواهب الجرد بأرسانها * ليس بزنديق ولا كافر
ووقعت بين هشام وبين الوليد بن يزيد وحشة عظيمة بسبب تعاطي الوليد ما كان يتعاطاه من الفواحش والمنكرات. فتنكر له هشام وعزم على خلعه وتولية ولده مسلمة ولاية العهد، ففر منه الوليد إلى الصحراء، وجعلا يتراسلان بأقبح المراسلات، وجعل هشام يتوعده وعيدا شديدا، ويتهدده، ولم يزل كذلك حتى مات هشام والوليد في البرية، فلما كانت الليلة التي قدم في صبيحتها عليه البرد بالخلافة، قلق الوليد تلك الليلة قلقا شديدا وقال لبعض أصحابه: ويحك! قد أخذني الليلة قلق عظيم، فاركب لعلنا نبسط.
فقيل لها: هو الوليد فلما تحقَّقَتْ ذلك حنَّت عليه بعد ذلك، وكانت عليه أحرص منه عليها قبل أن تحنَّ عليه. وروى ابن عساكر بسنده أنَّ الوليد سمع بخمار صلف بالحيرة فقصده حتى شرب منه ثلاثة أرطال من الخمر، وهو راكب على فرسه، ومعه اثنان من أصحابه، فلما انصرف أمر للخمَّار بخمسمائة دينار، وقال القاضي أبو الفرج: أخبار الوليد كثيرة قد جمعها الأخباريُّون مجموعةً ومفردةً، وقد جمعت شيئاً من سيرته وأخباره، ومن شعره الذي ضمنه ما فجر به من جرأته وسفاهته وحمقه وهزله ومجونه وسخافة دينه، وما صرَّح به من الإلحاد في القرآن العزيز، والكفر بمن أنزله وأُنْزل عليه، وقد عارضتُ شعرَه السَّخيفَ بشعر حصيف (محكم لا خلل فيه) ، وباطله بحق نبيه شريف، وترجيت رضاء الله عز وجل واستيجاب مغفرته. وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: ثنا سليمان بن أبي شيخ، ثنا صالح بن سليمان، قال: أراد الوليدُ بن يزيد الحجَّ وقال: أشرب فوقَ ظهر الكعبة الخمر فهمُّوا أن يَفْتكوا به إذا خرج، فجاؤوا إلى خالد بن عبد الله القسريّ فسألوه أن يكون معهم فأبى، فقالوا له: فاكتم علينا، فقال: أما هذا فنعم فجاء إلى الوليد فقال: لا تخرج؛ فإني أخاف عليك فقال: ومن هؤلاء الذين تخافهم عليَّ ؟ قال: لا أخبرك بهم قال: إن لم تخبرني بهم بعثتُ بك إلى يوسف بن عمر قال: وإن بعثتَ بي إلى يوسف بن عمر فبعثه إلى يوسف فعاقبه حتى قتله.
فحمل نصر بن سيار ألف مملوك على الخيل، وألف وصيفة وشيئا كثيرا من أباريق الفضة والذهب، وغير ذلك من التحف. وكتب إليه الوليد يستحثه سريعا ويطلب منه أن يحمل معه طنابير وبرابط ومغنيات وبازات وبراذين فره، وغير ذلك من آلات الطرب والفسق، فكره الناس ذلك منه وكرهوه. وقال المنجمون لنصر بن سيار: إن الفتنة قريبا ستقع بالشام، فجعل يتثاقل في سيره، فلما أن كان ببعض الطريق جاءته البرد فأخبروه بأن الخليفة الوليد قد قتل وهاجت الفتنة العظيمة في الناس بالشام، فعدل بما معه إلى بعض المدن فأقام بها. وبلغه أن يوسف بن عمر قد هرب من العراق، واضطربت الأمور وذلك بسبب قتل الخليفة على ما سنذكره، وبالله المستعان. وفي هذه السنة ولى الوليد يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي ولاية المدينة ومكة والطائف، وأمره أن يقيم إبراهيم ومحمدا ابني هشام بن إسماعيل المخزومي بالمدينة مهانين لكونهما خالي هشام، ثم يبعث بهما إلى يوسف بن عمر نائب العراق، فبعثهما إليه. فما زال يعذبهما حتى ماتا، وأخذ منهما أموالا كثيرة. وفي هذه السنة ولى يوسف بن محمد يحيى بن سعيد الأنصاري قضاء المدينة. وفيها: بعث الوليد بن يزيد إلى أهل قبرص جيشا مع أخيه، وقال: خيِّرهم فمن شاء أن يتحول إلى الشام، ومن شاء أن يتحول إلى الروم، فكان منهم اختار جوار المسلمين بالشام، ومنهم من انتقل إلى بلاد الروم.