ومن وراء ذلك إشارة إلى أصل المخلوقات كيف طرأ عليها الإيجاد بعد أن كانت عدمًا، وكيف يمتد وجودها في طور نمائها، ثم كيف تعود إلى العدم تدريجًا في طور انحطاطها إلى أن تصير إلى العدم، فذلك مما يشير إليه {ثم قبضناه إلينا قبضًا يسيرًا} فيكون قد حصل من التذكير بأحوال الظلّ في هذه الآية مع المنّة والدلالة على نظام القدرة تقريب لحالة إيجاد الناس وأحوال الشباب وتقدم السن، وأنهم عقب ذلك صائرون إلى ربّهم يوم البعث مصيرًا لا إحالة فيه ولا بعد، كما يزعمون، فلما صار قبض الظل مثلًا لمصير الناس إلى الله بالبعث وُصف القبض بيسير تلميحًا إلى قوله: {ذلك حَشْر علينا يسير} [ق: 44]. وفي هذا التمثيل إشارة إلى أن الحياة في الدنيا كظل يمتد وينقبض وما هو إلا ظل. القرآن الكريم - تفسير القرطبي - تفسير سورة الفرقان - الآية 45. فهذان المَحملان في الآية من معجزات القرآن العلمية. اهـ.. قال الشعراوي: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ}. الحق سبحانه وتعالى وهو خالق الآيات في الكون يُنبِّه إليها الخَلْق، وكان من المفروض ممَّن يرى الآيات أنْ يتنبه إليها دون أنْ يُنبه، فإذا رأى عجيبة من عجائب الكون تأملها، وسبق أنْ ضربنا لذلك مثلًا بمَنِ انقطعت به السُّبل في صحراء شاسعة، ليس بها أنيس ولا حياة، وقد بلغ به الجهد حتى نام، فلما استيقظ وجد مائدة عليها أطايب الطعام أو الشراب، بالله قبل أنْ تمتدَّ يده إلى الطعام، أليس من المفروض أنْ يفكر في هذا الطعام، مَنْ أتى به؟ وأعدَّه على هذه الصورة؟ إذن: في الكون آياتٌ كان يجب أنْ تشدَّ انتباهك لتبحث فيها وفي آثار وجودها وكلها آيات عالية عَنّا وفوق إمكاناتنا: الشمس والقمر، الهواء والمطر.. إلخ.
القرآن الكريم - تفسير القرطبي - تفسير سورة الفرقان - الآية 45
والقبض: ضد المدّ فهو مستعمل في معنى النقص، أي نقصنا امتداده، والقبض هنا استعارة للنقص. وتعديته بقوله: {إلينا} تخييل، شُبِّه الظل بحبل أو ثوب طواه صاحبه بعد أن بسطه على طريقة المكنية، وحرف إلى ومجروره تخييل. وموقع وصف القبض بيسير هنا أنه أريد أن هذا القبض يحصل ببطء دون طفرة، فإن في التريث تسهيلًا لقبضه لأن العمل المجزّأ أيسر على النفوس من المجتمع غالبًا، فأطلق اليسر وأريد به لازم معناه عرفًا، وهو التدريج ببطء، على طريقة الكناية، ليكون صالحًا لمعنى آخر سنتعرض إليه في آخر كلامنا. وتعدية القبض ب {إلينا} لأنه ضد المدّ الذي أسند إلى الله في قوله: {مد الظل}. وقد علم من معنى {قبضناه} أن هذا القبض واقع بعد المد فهو متأخر عنه. وفي مَدِّ الظل وقبضِه نعمةُ معرفة أوقات النهار للصلوات وأعمال الناس، ونعمةُ التناوب في انتفاع الجماعات والأقطار بفوائد شعاع الشمس وفوائد الفيء بحيث إن الفريق الذي كان تحت الأشعة يتبرد بحلول الظلّ، والفريق الذي كان في الظل ينتفع بانقباضه. هذا محل العبرة والمنّة اللتين تتناولهما عقول النّاس على اختلاف مداركهم. ووراء ذلك عبرة علمية كبرى توضحها قواعد النظام الشمسي وحركةُ الأرض حول الشمس وظهورُ الظلمة والضياء، فليس الظل إلا أثر الظلمة فإن الظلمة هي أصل كيفيات الأكوان ثم انبثق النور بالشمس ونشأ عن تداول الظلمة والنور نظام الليل والنهار وعن ذلك نظام الفصول وخطوط الطول والعرض للكرة الأرضية وبها عرفت مناطق الحرارة والبرودة.
ومع ذلك لم يتركك الله؛ لأن تتنبه أنت، بل نبَّهك ولفتَك وجذب انتباهك لهذه ولهذه. وهنا، الحق تبارك وتعالى يعرض الآيات والكونيات التي يراها الإنسان برتابة كل يوم، يراها الفيلسوف كما يراها راعي الشاة، يراها الكبير كما يراها الصغير كل يوم على نظام واحد، لا يكاد يلتفت إليها. يقول سبحانه: {أَلَمْ تَرَ} [الفرقان: 45] أي: ألم تعلم، أو ألم تنظر إلى صَنْعة ربك {كَيْفَ مَدَّ الظل وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلًا} [الفرقان: 45] نعم نرى الظل، فما هو؟ الظل أنْ يَحْجب شيء كثيف على الأرض مثل جبل أو بناء أو شجرة أو نحوه ضوءَ الشمس، فتظهر منطقة الظل في المكان المُشْمِس، فالمسألة إذن متعلقة بالشمس، وبالأرض التي نعيش عليها. وقد علمنا أن الأرض كرة تواجه الشمس، فالجهة المواجهة منها للشمس تكون مُضَاءة، والأخرى تكون ظلامًا لا نقول ظلًا، فما الفرق بين الظلِّ والظلام؟ قالوا: إذا كان الحاجبُ لضوء الشمس من نفس الأرض فهي ظُلْمة، وإنْ كان الحاجب شيئًا على الأرض فهو ظل. والظل نراه في كل وقت، وقد ورد في عدة مواضع من كتاب الله، فقال سبحانه: {إِنَّ المتقين فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ} [المرسلات: 41].