وإلا فإن الله قد قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:٢] ، وقال: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:٦٧] ، ولكن كأنه يقول له: في مقام التضرع والدعاء ادع ربك ألا يعذبك، فأنت لا تأمن مكر الله سبحانه وتعالى، فإذا كان رسول الله قد أمر بذلك فغيره من باب أولى، فعلى كل إنسان مؤمن ألا يأمن مكر الله سبحانه وتعالى، خاصة وقد أخبرنا سبحانه أنه إذا نزل عذابه فإنه لا يأتي للظلمة فقط، ولكنه يعم الظلمة وغيرهم، ثم يبعثون على نياتهم يوم القيامة. فعلى الإنسان المؤمن أن يخاف من بطش الله ومن مكره سبحانه. قال تعالى: {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:٩٥] أي: ما نتوعدهم به من العذاب سيكون، ولكن لكل شيء عند الله أجل مكتوب عنده سبحانه، فسنظهر لك هذا الذي توعدناهم به.
*﴿قُل رَبِّ إِمّا تُرِيَنّي ما يوعَدونَ﴾* - Youtube
قل رب إما تريني ما يوعدون رب فلا تجعلني في القوم الظالمين وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون [ ص: 118] آذنت الأيات السابقة بأقصى ضلال المشركين وانتفاء عذرهم فيما دانوا به الله تعالى وبغضب الله عليهم لذلك ، وأنهم سواء في ذلك مع الأمم التي عجل الله لها العذاب في الدنيا ، وادخر لها عذابا آخر في الآخرة ، فكان ذلك نذارة لهم بمثله وتهديدا بما سيقولونه ، وكان مثارا لخشية النبيء صلى الله عليه وسلم أن يحل العذاب بقومه في حياته والخوف من هوله فلقن الله نبيه أن يسأل النجاة من ذلك العذاب. وفي هذا التلقين تعريض بأن الله منجيهم من العذاب بحكمته ، وإيماء إلى أن الله يري نبيه حلول العذاب بمكذبيه كما هو شأن تلقين الدعاء كما في قوله: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا الآية. فهذه الجملة استئناف بياني جوابا عما يختلج في نفس رسول الله عليه الصلاة والسلام. وقد تحقق ذلك فيما حل بالمشركين يوم بدر ويوم حنين ، فالوعيد المذكور هنا وعيد بعقاب في الدنيا كما يقتضيه قوله: فلا تجعلني في القوم الظالمين. وذكر في هذا الدعاء لفظ ( رب) مكررا تمهيدا للإجابة; لأن وصف الربوبية يقتضي الرأفة بالمربوب. وأدخل بعد حرف الشرط ( ما) الزائدة للتوكيد فاقترن فعل الشرط بنون التوكيد لزيادة تحقيق ربط الجزاء بالشرط.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (٩٥) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد ﷺ: قل يا محمد: ربّ إنْ تُرَينّي في هؤلاء المشركين ما تعدهم من عذابك، فلا تهلكني بما تهلكهم به، ونجِّني من عذابك وسخطك، فلا تجعلني في القوم المشركين، ولكن اجعلني ممن رضيت عنه من أوليائك. * * *
وقوله: ﴿فَلا تَجْعَلْنِي﴾
جواب لقوله: ﴿إِمَّا تُرِيَنِّي﴾ اعترض بينهما بالنداء، ولو لم يكن قبله جزاء لم يجز ذلك في الكلام، لا يقال: يا زيد فقم، ولا يا رب فاغفر؛ لأن النداء مستأنف، وكذلك الأمر بعده مستأنف، لا تدخله الفاء والواو، إلا أن يكون جوابا لكلام قبله. وقوله: ﴿وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ﴾
يقول تعالى ذكره: وإنا يا محمد على أن نريك في هؤلاء المشركين ما نعدهم من تعجيل العذاب لهم، لقادرون، فلا يحْزُنَنَّك تكذيبهم إياك بما نعدهم به، وإنما نؤخر ذلك ليبلغ الكتاب أجله. القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه: ادفع يا محمد بالخلة التي هي أحسن، وذلك الإغضاء والصفح عن جهلة المشركين والصبر على أذاهم، وذلك أمره إياه قبل أمره بحربهم، وعنى بالسيئة: أذى المشركين إياه وتكذيبهم له فيما أتاهم به من عند الله، يقول له تعالى ذكره: اصبر على ما تلقى منهم في ذات الله.
العباس بن الأحنف
ابن الأسود بن طلحة، الشاعر المشهور، كان من عرب خراسان، ونشأ ببغداد. وكان لطيفا ظريفا مقبولا حسن الشعر. قال أبو العباس: قال عبد الله بن المعتز: لو قيل لي من أحسن الناس شعرا تعرفه؟ لقلت: العباس:
قد سحب الناس أذيال الظنون بنا * وفرَّق الناس فينا قولهم فرقا
فكاذب قد رمى بالظن غيركم * وصادق ليس يدري أنه صدقا
وقد طلبه الرشيد ذات ليلة في أثناء الليل فانزعج لذلك وخاف نساؤه، فلما وقف بين يدي الرشيد قال له: ويحك! إنه قد عنَّ لي بيت في جارية لي فأحببت أن تشفعه بمثله. فقال: يا أمير المؤمنين! قصة العباس بن الأحنف و الجارية التي شغف بها - عالم الأدب. ما خفت أعظم من هذه الليلة. فقال: ولم؟
فذكر له دخول الحرس عليه في الليل، ثم جلس حتى سكن روعه، ثم قال: ما قلت يا أمير المؤمنين؟
فقال:
حنان قد رأيناها فلم نر مثلها بشرا * يزيدك وجهها حسنا إذا ما زدته نظرا
فقال الرشيد: زد. إذا ما الليل مال عليـ * ـك بالإظلام واعتكرا
ودجَ فلم تر فجرا * فأبرزها ترَ قمرا
فقال: إنا قد رأيناها، وقد أمرنا لك بعشرة آلاف درهم.
العباس بن الاحنف حياته
وحملت على ما ترون من الظّهر! ثم قال الوزير: من تمام اليد عندك أن لا تخرج من الدار حتى يؤهل لك هذا المال ضياعا. فاشتريت لي ضياع بعشرين ألف درهم، ودفع إليّ بقية المال. فهذا الخبر الذي عاقني عنكم، فهلموا حتى أقاسمكم الضيّاع، وأفرق فيكم المال قلنا له: هنأك اللَّه، فكل منا يرجع إلى نعمة من أبيه. فأقسم وأقسمنا فقال: [فتكونون] أسوتي فيه. فقلنا: أما هذه فنعم. قال: فامضوا بنا إلى الجارية حتى نشتريها. فمشينا إلى صاحبها، وكانت جارية جميلة حلوة، لا تحسن شيئا، أكثر ما فيها ظرف اللسان وتأدية الرسائل، وكانت تساوي على وجهها خمسين ومائة دينار؛ فلما رأى مولاها ميل المشتري استام بها خمسمائة، فأجبناه بالعجب فحط مائة، ثم قال العباس: يا فتيان، إني واللَّه أحتشم أن أقول بعد ما قلتم، ولكنها حاجة في نفسي، بها يتم سروري، فإن ساعدتم فعلت. قلنا له: قل قال هذه الجارية أنا أعاينها منذ دهر، وأريد إيثار نفسي بها؛ فأكره أن تنظر إليّ بعين من قد ماكس في ثمنها! العباس بن الاحنف حياته. دعوني أعطيه بها خمسمائة دينار كما سأل! قلنا له: وإنه قد حط مائتين. قال: وإن فعل. قال: فصادفت من مولاها رجلا حرّا، فأخذ ثلاثمائة وجهزها بالمائتين! فما زال إلينا محسنا حتى فرق الموت بيننا.
العباس بن الاحنف حياته وشعره
فلا ساروا ولا وَقَفوا ولا استقلّتْ بهمْ للبينِ أكوارُ
ما عندهم فرجٌ في قربِ دارهمْ وَلا لنَا مِنهمُ في البُعد أخبارُ
إذا ترحّلَ من هامَ الفُؤادُ بهِمْ فما أُبالي أقام الحيُّ أم سَاروا.
العباس بن الأحنف فوز
وواضح من أخبار العباس أنه كان ذا حظوة عند الخلفاء العباسيين وصلته القوية بالمهدي والرشيد معروفة تتناقلها كتب الأدب. أما نواله منهم فقد كان نوال المحبين لشعره المعجبين بظرفه، إلاّ أنّه لم يكن يتخذ المدح مطية للكسب كما لم ينهج نهج بشار بن برد فيتوعد بالهجاء إذا لم يمنح الجوائز السنيّة. وليس أدل على هذا الترفّع, وأن العطاء كان يأتيه بباعث التقدير, ما جاء في كتب اللطائف من أخبار الرشيد مع جاريته مارية التي كانت أثيرة عنده, وأنه ذات مرة وقع بينهما عتب أعقبه إعراض وجفاء وأبى أحدهما أن يكون البادئ بالملاينة والتقرّب، فأما الرشيد فباعثه على ذلك مركز الخلافة وعزّتها وأما معشوقته فبحكم منزلتها ودالّتها.
أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه شاعر أندلسي، وصاحب كتاب العقد الفريد. أمتاز بسعة الاطلاع في العلم والرواية والشعر. كتب الشعر في الصب والغزل، ثم تاب وكتب أشعارًا في المواعظ والزهد سماها "الممحصات".